ليوناردو دافنشي و علم التشريح
التاريخ وعلم الآثار >>>> النهضة الأوروبية و أعلامها
ولد ليوناردو دافنشي في الخامس عشر من شهر نيسان الموافق لعام 1452 و هو الابن الغير شرعي للسير بييرو، المحامي الفلورنسي و والدته كاترينا،عاملة بسيطة في فندق بقرية فينشي الواقعة على سفوح توسكاني. لم يحظ دافنشي بطفولة سعيدة وعاش بكنف جده بعيدا" عن والداه اللذان لم يتزوجا لفقر أمه مما ولد لديه شعورا" بالوحدة و تفضيل العزلة من عمر مبكر. تعلم على يد النحات و الرسام الشهير اندريا فيروشيو سنة 1469 وتم ضمه لنقابة الحرفيين وهكذا انطلقت رحلة الفنان والمخترع،الفيلسوف والعالم صاحب الرؤية و الموهبة الفذة. و من الجدير بالذكر أن دافنشي لم يكن يوما" من محبي الدراسة و أساليب التعلم التقليدية حتى أنه اعتاد إهمال دروسه و التخلف مرارا" عن المدرسة. إلا أن عبقرية دافنشي فاقت حدود الطبيعة البشرية حيث قرر عدم تقييد ذاته بمجال معين كالرسم أو النحت بل فضل الغوص في بحار العلوم و المعارف الواسعة.
تنقل دافنشي في كل من فلورنسا،ميلانو،و روما لما يقارب الخمس و أربعين سنة. تميز باستقلاليته في منهجية البحث و أسلوب الحياة إيمانا" منه بأن العزلة تعني التفاني للذات و القدرة على الابتكار. اعتاد قضاء يوم كامل من الفجر إلى الغسق و هو يضرب بفرشاته و ألوانه و من ثم يمتنع عن دخول غرفة الرسم لأيام متتالية. ليس هذا فحسب بل تعدت غرابته إلى اعتماده طريقة غريبة في تدوين المعلومات حيث قام بكتابة أفكاره من اليمين لليسار و بأحرف مغايرة لشكلها الأصلي حتى لا يتمكن أحد من سرقة أفكاره. كان دافنشي يدون معلوماته في مذكرات شخصية تناولت مواضيع عدة و منها طريقة طيران الطيور و حركتها، علم الآلات، دراسة الحيوانات و حركاتها. ترك دافنشي إرثا" فنيا" ضم روائع يذكر منها :
The Annunciation، The Madonna of the Carnation، Baptism of Christ، The Last Supper، and Mona Lisa.
وفي سياق أخر، اعتبر دافنشي رائدا" بعلم التشريح الذي خاض مجاله في الفترة الممتدة مابين الأعوام 1489-1513 وذلك بالرغم من معارضة الكنيسة و محاربتها لهذا المجال. أمضى دافنشي ساعات طويلة بين سراديب الأبنية و تحت ضوء الشمعة و هو يقوم بتشريح ما يزيد عن 30 جثمانا" من كلا الجنسين و من جميع الأعمار. اهتم بدراسة العلاقة بين البنية و الوظيفة في الجسم البشري و تمكن بفضل قدرته الاستثنائية على الملاحظة من تسجيل ملاحظاته و رسمها بتفاصيل توضيحية في مجموعة مدونات لم تكتشف و تعطى حق قيمتها إلا بعد حوالي 380 عاما" على وفاته. لاحقا" تمكن العلماء من دراسة اكتشافاته الطبية والتي جعلته رائدا" بعلم التشريح المرضي و الطب الشرعي. في عام 1506 أصدر دافنشي دراسة تتناول أمراض القلب التاجية كمسبب للموت و مما جاء فيها: "اجتمعت برجل طاعن في السن قبل ساعات من وفاته ،أخبرني أنه طوال حياته لم يشك من مرض سوى التعب الجسدي بين الحين و الأخر، إلا أن هذا الرجل توفي لاحقا على فراشه بدون سبب يذكر. قمت بتشريح جسده لفهم سبب الوفاة فوجدت أن موته جاء نتيجة نقص الدم في الشرايين المغذية للقلب و الأجزاء السفلى للجسم البشري."
ويضاف لاكتشافاته العلمية ما ذكره بخصوص الحمل البشري و مراحل نمو الجنين برحم أمه. مثلا" ما هي الأجزاء التي تتكون أولا" و كيفية نموها وفقا" لمراحل الحمل المختلفة. حيث قام بدراسة طبيعة الرحم و كيفية عيش الجنين فيه والمدة اللازمة لنمو الجنين و من ثم طريقة الولادة و أسباب الولادة المبكرة أحيانا". وأخيرا" دراسة مراحل النمو المختلفة و نمو الأعضاء الحيوية و كيفية بلوغه و الصفات الجسدية الموروثة من لون و مظهر خارجي. بالإضافة لدراسة تفاصيل الجسد البشري و أعضائه الحيوية من أوردة، أوتار،عضلات،وعظام. هذا و درس دافنشي الأعضاء التناسلية لكلا الجنسين و وضح كيفية الجماع و حدوث عملية الحمل و كان من الأوائل الذين درسوا الأغشية المحيطة بالجنين و المشيمة التي تصل بين الجنين و أمه و المسئولة عن تغذيته. لاحظ من خلال دراسته بأن الأوعية الدموية لكل من الجنين و أمه غير متصلة مما كان له دور كبير في اكتشاف الدورتان الدمويتان لاحقا" من قبل ويليام هارفي و وليام هانتر.
ومن الدراسات الملفتة لدافنشي ما كتبه عن علم الوراثة بالنسبة للون البشرة حيث قال أن العرق الأسود في أثيوبيا ليس نتيجة أشعة الشمس و السبب أن زواج رجل أسود بامرأة سوداء ينتج عنه طفل أسود بينما زواج رجل أسود بامرأة بيضاء ينتج عنه طفل خلاسي مما يعني أن المورثات الممنوحة من الأم مجموعة بمورثات الأب هي المسئولة عن إعطاء لون البشرة للطفل.
ولم يبقى سوى أن نذكر بأن ليوناردو كان شديد الاهتمام بموضوع الرعاية الصحية وكتب العديد من التوصيات بهذا الخصوص و دعا إلى الوقاية و تجنب الأدوية .و مما جاء في توصياته:
لا تأكل إلا عند الحاجة و كل باعتدال. امضغ الطعام جيدا" و احرص على تناول المكونات البسيطة و المطبوخة بشكل جيد. ابتعد عن الأدوية وتجنب الغضب و البقاء في الأماكن المغلقة. لا تنم في منتصف النهار و تناول الشراب باعتدال و وفي وجبات الطعام فقط و ليس على معدة فارغة. تجنب تأخير موعد إخراج الفضلات و احرص على ممارسة الرياضة باعتدال للتخلص من الزوائد في منطقة البطن. اتبع هذا النظام و احرص على البقاء بمزاج مبتهج.
توفي ليوناردو دافنشي في الثاني من أيار سنة 1519 وقيل بأنه كتب ما يلي على ضريحه:"كما أن قضاء يوم جميل يمكن صاحبه من نوم جيد،كذلك فإن قضاء حياة مليئة بالاكتشافات تمكن صاحبها من الموت بسعادة."