مِن حَلب إلى هوليود ..مصطفى العقّاد
التاريخ وعلم الآثار >>>> شخصيات من سورية
حين أخبر الشاب اليافع محيطه عن عزمه الذهاب إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتعلم فن الإخراج قوبل بالاستهزاء. كانت العبارة التي تتردد على مسامعه "كم أنت ساذج!" تزيده إصراراً على إصرار. لم تكن تلك الأصابع التي أشارت إليه مستهزئة من حلمه تظن أن يوماً ليس ببعيد سيأتي لتشير بنفس الأصابع إلى المخرج العالمي الأشهر. مصطفى العقّاد.
عائلته أيضاً أبدت معارضتها لأفكار ابنها وحاولت ثنيه عن الخوض في تلك التجربة الخيالية، إلا أن والده رضخ بعد حين فكان زاد الشاب إلى غربته مائتا دولار ودعاء والده له بالنجاح فقط!
عن يومه الأول في غربته يقول في إحدى حواراته : "في أول يوم لي في الجامعة أتذكر حقيبة ملابسي وقد انكسرت يدها فصرت أحملها على كتفي وأتوجه إلى الجامعة" يتابع : "كان طريقي شاقاً.. فلو لم أكن عربياً لكان الأمر أسهل بكثير.. كان بإمكاني أن أغير اسمي لأمارس عملي بسهولة.. لكن كيف أغير اسمي الذي أورثني إياه أبى؟!"
في جامعة كاليفورنيا بدأت المسيرة الدراسية والتي أنهاها بتفوقه فكان اسمه في سجل المتميزين بجامعته "إجازة في فن المسرح".
تمضي سنوات رحلة تحصيله العلمي طويلة ومضنية عمل فيها شتى المهن ليعيل نفسه فكان مراسلاً صحفياً لمجلة الدنيا الدمشقية كما قدم الكثير من طلبات العمل لبرامج على الشاشة الصغيرة رغم أجورها الضئيلة.
تحصيله العلمي لم يتوقف بل شق طريقه لنيل الماستر في الإخراج فكانت ثلاث سنوات أخرى من الدراسة التقى خلاله المخرج Sam Peckinpah الذي عمل معه العقاد كمستشار لفلم عن الثورة الجزائرية (لم يرى الفلم النور) لاحقاً ساعده المخرج في إيجاد عمل في CBS.
مصطفى العقاد الشاب العشريني المتقد الذكاء علم أن حلمه الأكبر في صنع الأفلام (إخراجاً وإنتاجاً) لن يتحقق بدون ميزانية ضخمة وتلك الميزانية لم تكن لتوجد بدون إخراج مجموعة من الأفلام تحقق شعبية على شباك التذاكر. هوس الأمريكيين بأفلام الرعب آنذاك أشبعه العقاد بسلسة الهالوين (ثمانية أجزاء آخرها في ال2002) أفلام بدايتها كانت بميزانية صغيرة لكن حققت ربح هائل وشعبية كبيرة على شباك التذاكر ، كما أنها رسخت اسم مصطفى العقاد كمخرج في هوليود ومهدت الطريق أمامه إلى الحلم الذي ولد لأجله
صناعة الأفلام لم تكن غاية للمخرج مصطفى العقاد بل وسيلة لإيصال ما يريده، فما الذي كان يريده هذا الرجل السوريّ المبهور بالسينما؟ وأي رسالة كان يريد إيصالها؟ الرسالة كانت طويلة، عميقة في محتواها جميلة في ابداعها والبداية كانت مع فلم الرسالة في عام 1976 بنسخة عربية بطولة عبدا لله غيث ومنى واصف ونسخة انكليزية The Message انتوني كوين، ايرين باباس.
استغرقت عمليات التصوير 393 يوماً بشكل سرّي لتعرضهم للضغوط لإيقاف التصوير وتعرض خلالها العقاد لمضايقات وصلت إلى إيقاف التصوير فعلياً وتغيير مكانه (كان تصوير الفلم بين الصحراء المغربية والليبية). الفلم هو تحفة فنية حقيقية. الإخراج للعقاد، كتابة السيناريو كانت لكل من توفيق الحكيم وعبد الحميد جودة السحار ويوسف إدريس وأحمد شلبي وهاري كريغ (استغرقت كتابة الفلم سنة كاملة) وأبدع موسيقى الفيلم التصويرية الفنان الفرنسي "موريس جار".. الذي استوحاها من صوت الآذان أثناء زيارته للقاهرة للبحث عن موسيقى مناسبة للفيلم .
يطول الحديث عن المسيرة المعقدة للتحضير لذلك الفلم الذي أخذ أكثر ما أخذ من الوقت للحصول على الموافقة بتصويره!
يقول العقاد عن الصعوبات التي واجهته: "اعترضت رابطة العمل الإسلامي على الفلم حيث قالت أن الصورة حرام! فما كان منّي إلّا أن أخبرتهم عن أنّي حين كنت في أمريكا تعلمت في جامعة كاليفورنيا أن من اخترع نظرية التصوير هو الحسن بن الهيثم الأندلسي".
استطاع العقاد ببراعته أن يجعل من الفلم الذي تعدى الثلاث ساعات (بدون ظهور شخصية الرسول ممثلةً في الفلم) تحفة تجاوزت البعد السينمائي وجمعت بين التوثيق والدراما بشكل أخاذ وأن يوصل إلى الشرق والغرب على حد سواء رسالته. يحكى عن صرامة العقاد في العمل ودقّته وإعادته للمشاهد حين لا يجدها مناسبة رغم الكلفة المرتفعة لإعادة مشهد بكادر عمل ضخم يصل إلى ألف شخص (أعاد مشهد كلفه الملايين لأن أحد الشخصيات قد نسي الساعة في معصمه).
العقّاد كان مبدعاً بإعطاء المشاهد عفويتها وإضفاء المصداقية عليها. إحدى أهم المشاهد في فلم الرسالة كان مشهد خطبة الوداع فما كان منه إلّا أن تحايل على جموع الممثلين وأخبرهم أن لا تصوير اليوم كان يريد أن يأخذ تعابير الممثلين كما لو أنها حقيقية.
ذهب إلى ساحة معروفة في مراكش (كان التصوير حينها في الصحراء المغربية) وأحضر حكواتياً اشتهر بإلقاء قصص الزير وعنترة بأسلوب لافت وجذاب ، جاء به إلى موقع التصوير وألبسه لباس شيخ ووضع له منصة وأخفى الكاميرات. اعتلى الشيخ (الحكواتي)المنصة فقام العقاد وقبّل يده كذلك مساعديه لإيهام الجموع بأنه شيخ جليل وبدأ الشيخ يتكلم عن الأيام الأخيرة في حياة الرسول فأجاد وأبدع فما كان من الناس إلى أن أجهشت بالبكاء طويلاً..
يقول العقاد كانت كل لقطة في ذلك المشهد تساوي قيمتها مليون دولار!
بعد الرسالة جاء فلم.. أسد الصحراء/Lion of the Desert 1980 انتوني كوين ايرين باباس اوليفر ريد.
عبقرية مصطفى العقاد الفريدة.. صوّرت بأسلوب فني إنساني مُبدع قصة نضال المقاومة الليبية بقيادة الشيخ البطل "عمر المختار" ضد الفاشستيين الإيطاليين عندما قام الجنرال الإيطالي رودلفو غرانسيانى بقتل 200 ألف مواطن ليبي في ثلاث سنوات خلال استعمار بلاده لليبيا ،قبل أن يتمكن من القبض على شيخ الثوار عمر المختار لتقديمه سريعاً لحبل المشنقة.
العقاد يكمن في التفاصيل يبرع بها ويعشق العمل عليها لإكمال اللوحة الفسيفسائية لعمله الفني. يروي صديقه مشاهداته لجلسة تسجيل الموسيقى التصويرية لفلم عمر المختار حيث كانت الاوركسترا الضخمة (80-90 عازف) في استديو في لندن يقومون بالعزف فطلب العقاد من المايسترو موريس جار الوقوف قائلاً له : "الموسيقى بطيئة ولا تتناسب مع المشهد القتالي أعد التأليف". يقول صديقه مدهوشاً: "هذا الطلب كلّف العقّاد أكثر من خمسين ألف جنيه إسترليني". لكنها التفاصيل هي التي تصنع العمل و العقاد يكمن في التفاصيل.
فكرة الفلم الثالث الذي عقد النية على صنعه راودته منذ زمن بعيد وسابق لكلا الفلمين السابقين. تقول زوجته: كان لديه حلم أن يقوم بصنع فلم عن صلاح الدين الأيوبي. وقد كادت الفكرة المختمرة في عقله طيلة سنين أن ترى النور بعد أن انتهى السيناريو ووقع اختياره على النجم الأمريكي الشهير شون كونري Sean Connery إلا أن الأيام لم تسعفه ليصبح حلمه حقيقة.
الحديث عن العقاد يطول.. الرجل العربي الذي خاطب الشرق والغرب وفتح جسور التواصل بينهما وكسر الصورة المألوفة عن العربي الجاهل المتخلّف الإرهابي فكان شغفه في السينما رسالة بليغة حاكى فيها العالم بلسان عربي صادق.
نال العقّاد الكثير من الجوائز و الأوسمة في المهرجانات ومن زعماء عرب وأجانب وكُرم من الرئيس الأمريكي السابق بيل كلنتون لإبداعه. الشاب الحلبي الجميل أشارت إليه الأصابع بكل فخر بعد عقود لتقول: إنّه مصطفى العقاد.... المخرج السوريّ العالمي .
الأقدار شاءت أن تكون نهاية مصطفى العقاد عكس الرسالة التي طالما عمل على إيصالها فقضى نحبه مع ابنته ريما العقّاد في انفجار إرهابي في عمّان الأردن عام 2005 عن عمر يناهز الخامسة والسبعين.
المصادر: ما كتب أعلاه تجميع من مقابلاته الصحفية وبشكل رئيسي من فلم وثائقي انعمل عنه اسمه : هل تستمر الرسالة