ميكروبات جهازك الهضمي وصحتك النفسية؛ من يؤثر بمن؟
علم النفس >>>> المنوعات وعلم النفس الحديث
وليس ذلك فحسب، بل إنَّها تتواصل مع كل أجهزة جسمك متضمّنةً دماغك المعقد وأنظمتك العصبية النفسية المتطورة، فلنتعرَّف كيف يكون ذلك؟
ما الميكروبيوتا؟ وما الميكروبيوم؟
يُستعمَل مُصطلَحا "الميكروبيوتا Microbiota والميكروبيوم Microbiome" استعمالًا شائعًا اليوم للإشارة إلى الكائنات الميكروبية التي تستوطن جسد الإنسان، وقد مكنتنا التطورات العلمية في علم الجينات من التعرف إلى قرابة 100 تريليون ميكروب يستوطن الجسم البشري؛ أي بمعدل 10 ميكروبات لكل خلية من خلايا الجسم، ويتضمن ذلك الجراثيم والفيروسات والفُطور التي تسكن أجسادنا منذ ولادتنا ويوجَدُ معظمها في الجهاز الهضمي وعلى البشرة وعلى الأعضاء التناسلية. وفي حين يُعبِّر مصطلح الميكروبيوتا عن مجتمعات هذه الكائنات الدقيقة فإنَّ مصطلح الميكروبيوم يُشير إلى مادتها الوراثية.
ميكروبيوتا جهاز الهضم:
تختلف عائلات الميكروبات التي تستوطن الجهاز الهضمي من فرد إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر، والأسئلة اليوم مطروحة عمَّا إذا كانت تختلف من مرحلة عمرية إلى أخرى، ويتضمن الميكروبيوم الهضمي ما يزيد على 3 مليون جين؛ أي أكثر من جينات الجسم البشري بـ 150 ضعفًا.
ولهذه الميكروبات تأثيرٌ عظيم في تطور المضيف التشريحي والفيزيولوجي والمناعي، فهي تسهم في الطريقة التي يُقاوِم بها الشخص العوامل المُمْرِضة، وتسهم في كيفية هضمه الطعامَ، بل إنها تؤثر في مزاج الشخص وحالاته النفسية أيضًا، فكيف ذلك؟
العلاقة بين الجهاز الهضمي وباقي أجهزة الجسم:
وقد رُبِط بين الوظيفة الهضمية السليمة ووظيفة الجهاز العصبي المركزي، فمكَّن ذلك الهرمونات والنواقل العصبية والعوامل المناعية المُفرَزة من جهاز الهضم أن تُرسِل إشارات إلى الدماغ إمَّا مباشرة أو عبر العصبونات الذاتية.
وكانت بدايةَ اكتشاف هذا التأثير المتبادَل عام 2004 من قِبَل Sudo وزملائه عبر ملاحظة الخلل في استجابة الفئران الخالية من الميكروبات للكرب، وتوالت من بعدها الدراسات التي تُدعى اليوم بالمحور الدماغي الهضمي والتي تؤكد إيجابيته، فقد أظهرت وجود علاقة بين الجهاز الهضمي وكلٍّ من الجهاز المناعي والعصبي والغدي الصماوي. ويسهم كل ذلك في العلاقة الوثيقة التي أُثبِتَت بين الميكروبيوتا والصحة النفسية.
كيف يمكن لميكروبات جهاز الهضم أن تؤثر في الحالة النفسية؟
يرتبط المحور الدماغي الهضمي بماهية التفاعل بين الميكروبيوتا والمحور الوطائي النخامي الكظري، فالميكروبات المَرَضية تُحدِث تفاعلًا التهابيًّا يزيد تفعيل الجهاز الودي، ويشبه هذا ما يحدث للجسم استجابةً للشدة. إضافة إلى ذلك تُفرِز هذه الميكروبات نواقل عصبية تُستقبَل عبر نهايات العصب المُبهَم المنتشرة في الجهاز الهضمي.
وأظهرت التجارب المبكرة على الحيوانات أنَّ الميكروبيوم الهضمي يمكن أنْ يؤثر في تطور الجهاز العصبي وكيميائية الدماغ وعددٍ من الظواهر السلوكية متضمنًا السلوك العاطفي وإدراك الألم وكيفية استجابة نظام الشدة.
وفي طريق معاكس؛ يمكن للدماغ أنْ يمارس تأثيرًا قويًا في الميكروبيوم الهضمي، وقد أظهرت العديد من الدراسات أنَّ الشدة -وإنْ كانت ضئيلة- يمكن أنْ تسبب اضطرابًا في الجهاز الهضمي، مما يجعل المضيف عُرضةً للأمراض الخمجية؛ إضافة إلى إطلاق شلال من التفاعلات الخلوية، التي تعود بدورها لتحدث أثرًا في الدماغ.
وعلى الرغم من هذه المعلومات المثيرة؛ لكنَّ دراسة العلاقة بين الميكروبيوم الهضمي والأمراض النفسي لا تزال في بداياتها والدراسات اليوم ما تزال تقتصر على القوارض، ففي دراسة نُشرت عام 2011 أعطى Bercik وزملاؤه مجموعةً من الفئران الخجولة تركيبةً من الصادَّات الحيوية لتغيير مكوناتهم الميكروبيوتية، ولاحظوا بعد ذلك التغير الجذري في سلوكهم؛ إذ أصبحوا شجعانَ ومغامرين (لا تستغرب؛ فحتى الفئران تختلف في طباعها، وهنالك وسائل خاصة لدى العلماء لتقييم شخصياتها). وبمجرد إيقاف الصاداتِ عادت مجموعة الفئران إلى سلوكها الخجول السابق!
وأظهرت الدراسات المتلاحقة أنَّنا لا نحتاج إلى إحداث تغيير جذري في هذه الميكروبات لمشاهدة تغير في السلوك، إذ تستطيعُ إضافة ذرة واحدة من الجراثيم أن تحرّض تغيُّرًا كبيرًا في السلوك.
بدأ العلماء اليوم ملاحظةَ هذه الموجودات والتفكير جديًّا في الربط بين العديد من الأمراض النفسية والميكروبيوم الهضمي، ولعل أهم ما يُركَّز عليه هو إمكانية إيجاد مجموعة دوائية عضوية جديدة للأمراض النفسية، فكما تستطيع الميكروبات الضارة أنْ تحرِّض التوتر فإنَّ الميكروبات المفيدة تستطيع أنْ تُخفِّف ذلك!
وفي تجربة أُجريت على مجموعة أخرى من الفئران تعاني الاكتئاب والقلق؛ وُضِعت الفئران في نظام غذائي ميكروبي مع إضافة جراثيم Lactobacillus خاصة، ولوحظ تحسُّن في سلوك الفئران ومزاجهم، ووُجِد انخفاض في مستويات الشدة وهرمونات الستيروئيدات القشرية (الكورتيزون) أيضًا.
إذًا؛ نحن اليوم أمام مجال اكتشافٍ واعد مفتوح، وقد يغير الطريقة التي ننظر بها إلى الأمراض النفسية المرتبطة بالشدة والعاطفة؛ خاصةً الاكتئاب والقلق، وقد يُفتَح لنا بابٌ جديد أمام علاجات عضوية ذات تأثيرات جانبية صغرى لمرض يُعَدُّ اليوم واحدًا من أهم أوبئة العصر.
ومن يدري؟ فربما غدًا سترغب في ابتلاع القليل من الميكروبات لأنّك ترغب في تغيير مزاجك فقط!
مصادر المقال
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا