كيف أصبحت اللهجتان الأمريكية والبريطانية مختلفتين جدًا؟
التعليم واللغات >>>> اللغويات
يفترض كثيرٌ من الناس بأن المستعمرين تحدثوا اللكنات نفسها التي تحدثتها عائلاتهم والتي كانت بريطانية في معظمها، وبالطبع تُظهر الدراسات الاجتماعية اللغوية بانتظام بأن لدى متحدثي الإنكليزية الأمريكية عقدةَ نقص على ما يبدو فيما يتعلق بلكناتهم المختلفة، وغالبًا ما كانوا يقيِّمون اللكنات البريطانية بأنها أعلى مكانةً اجتماعيةً على سبيل المثال.
إذًا، وبغض النظر عمّا سبق، غالبًا ما ينتهي المطاف بلكنات الشخصيات التاريخية متأثرة بالبريطانية على أية حال؛ الأمر الذي يبدو بالنسبة للسكان على جانبي المحيط بأنه يضيف نفحة من المصداقية الفنية إلى ما قد يكون كلامًا جامدًا وغير مقنع.
قصة استقلال أمريكا اللغوي ليست بسيطة جدًا كما يعتقد بعض الناس؛ بالطبع، لم يبدُ أكثر المستعمرين الأميركيين مثل متوسط البريطانيين العصريين اليوم، ولا بدوا مثل الملكة، وفي الوقت الذي كانت فيه أمريكا جاهزة لفصل نفسها عن البلد الأم – أي بريطانيا - عن وعي؛ مضى وقت طويل منذ أن حققت نوعًا من الاستقلال اللغوي، وبفضل نوع رائع من الدمج اللغوي، تحدث الأمريكيون بلهجة فصيحة خاصة بهم والتي غالبًا ما قوبلت بموافقة الإنكليز على النقيض من الطريقة التي تُحاكَم فيها أحيانًا لكنات أميركية محددة اليوم.
وغالبًا ما فاجأ المستعمرون الأمريكيون نظراءهم البريطانيون بطريقة كلام موحدة وفصيحة عبر المستعمرات وبغض النظر عن خلفياتهم الدينية أو العائلية أو الطبقية. في عام 1777، علّق زائر إنكليزي قائلًا:
"يتكون المستعمرون من المغامرين، ليس فقط من كل مقاطعة من بريطانيا العظمى وأيرلندا، بل من كل الدول الأوروبية تقريبًا، ولذلك أليس من غير المنطقي الافتراض بأن اللغة الإنكليزية أُفسدت على نحو كبير بخليط غريب من الأمم المختلفة؟ على كل حال العكس صحيح؛ إذ إن لغة الأحفاد الحالية من السلالات المنحلّة موحدةٌ تمامًا ونقيّةٌ تمامًا ولم تستعر أية لكنة إقليمية أو وطنية من أصلها البريطاني أو الأجنبي."
ومنذ مطلع القرن الثامن عشر عدَّ مراقبون هذا التجانسَ اللغوي الواضح والقولَ بالمساواة بين البشر دليلًا على أنه في حين كشف متحدثو الإنكليزية البريطانية بسهولة تفاصيلَ عن خلفياتهم عن طريق كلامهم؛ كان من الصعب جدًا تحديد خلفية المتحدث الأمريكي بالطريقة نفسها.
كيف أصبحت اللهجتان الأمريكية والبريطانية مختلفتين جدًا؟
بعيدًا عن كون أمريكا مأهولة بمهاجرين بريطانيين وأوروبيين جاؤوا بعاداتِ كلامهم، كما قد يفترض بعض الناس، كان هناك عددٌ سكاني متزايد ونشِطٌ من الأمريكيين يتحدثون بلهجة أمريكية محلية لم تكن وليدة ذاك الوقت، وإنما قد ازدهرت مسبقًا عن طريق عدة أجيال من المتحدثين الأصليين المولودين قبل كتابة إعلان الاستقلال بوقت طويل.
ويمكن رؤية دليل أكبر على هذا في مجموعة غريبة من الإعلانات عن مجرمين وخدم مرتبطين بعقد عمل مؤقت وهاربين (والذين كانوا غالبًا من المهاجرين القدماء)؛ إذ أصبح الكلام الإقليمي سمة تعريفية غير مألوفة مثل الكثير من التفاصيل الجسدية كالندبة أو العرج. وغالبًا ما كانت تُوصف لغة الخدم بأنها بسيطة أو جيدة أو سيئة أو ضحلة أو مكسرة، الأمر الذي يُظهر بأنه كان يُنظر إليها على أنها عمومًا مختلفة عن المعيار الأمريكي للكلام في ذلك الوقت .
“Ran away from the Subscriber … a Servant Man, named John Smith, … an Englishman, and speaks very plain.”
“Run away . . . from Germanna in Virginia, five Servant Men, belonging to his Excellency Colonel Spotswood Governor of Virginia . . . The said Cole an Englishman, speaking remarkably on the West-Country Dialect . . . aged about 30 Years . . . The said Redwood an Englishman, speaking broad West-Country . . . aged about 30 Years . . . The said Gaar an Englishman, speaking likewise as a West-Country Man . . . aged about 30 Years.”
يصف كثيرٌ من الناس لهجة اليوم الأمريكية إيجابيًا بكونها قريبة جدًا على نحو مفاجئ من معيار القواعد البريطاني المقبول لمجتمع لندن "المؤدب" - لغة جيدة من دون اصطلاحات أو لكنات - حتى لو وُجدت بعض الاختلافات في اللكنة أو بعض الاختلاف اللغوي. يلاحظ (بول لونغمور) على سبيل المثال بأن الكثير من المستعمرين تحدثوا هكذا:
"cover as kivver, engine as ingine, yesterday as yisterday, yes as yis, and Sarah as Sary“.
في حين كان يمكن أن يُعدَّ هذا الأمر مؤشرًا على طبقة اجتماعية متدنية في إنكلترا، من المحتمل أن متحدثي أمريكا الاستعماريين من جميع الطبقات الاجتماعية والأديان قد استخدموا هذه الأساليب اللغوية وخففوها لتصبح إشارة إلى الحالة الاجتماعية.
إذًا، كيف حدث هذا بوجود الاضطراب الثقافي والتنوع اللغوي للخلفيات الأمريكية الاستعمارية (مغامرون أو غير ذلك)؟ وكيف أصبحت اللهجتان الأمريكية والبريطانية مختلفتين كثيرًا رغم أن مصدرهما واحد؟
نوقشت الاختلافات بين اللهجات الإنكليزية والأمريكية بلهفة منذ أن أُنشئت المستعمرات الأمريكية، وظهرت بعض الأساطير اللغوية الضعيفة إلى حد ما بين الناس لمحاولة تفسير سبب اختلاف اللهجتين الأمريكية والبريطانية، تذهب النظرية (وهذه أسطورة شعبية ما يزال بعض علماء التاريخ وعلماء اللغة يتمسكون بها بشدة) إلى أن الإنكليزية الأمريكية الفصحى ولغة شكسبير الإليزابيثية تربطهما علاقة وثيقة جدًا عمليًا، ربما لأن المستوطنين البريطانيين الأوائل في جيمس تاون قد جاؤوا قبل أن يلفظ شكسبير آخر أنفاسه وقبل أن تحدث الكثير من الاختلافات الصوتية الموجودة اليوم في اللهجة البريطانية الفصحى القياسية مثل عدم لفظ الصوت /r/ في نهاية المقطع. يُدَّعى عادة أن الإنكليزية الأمريكية هي الإنكليزية الأصلية، وهي عبارة عن شكل قديم من الإنكليزية البريطانية حُفظ على نحو جميل كقطعةً أحفورية لغوية، ولكن كانت في الواقع إنكليزية بريطانيا القياسية تخوض كل حالات التغير وتُفسد نفسها في خلال هذه العملية وتصبح عمومًا أقل واقعية.
يبدو الادعاءُ الخاطئ الذي غالبًا ما يُستشهد به بأن لهجة شكسبير كانت أقرب إلى الأمريكية منها إلى البريطانية - ولهذا فإن الإنكليزية الأمريكية يجب أن تكون خالية من أي فساد لغوي عصري يتبعها - يبدو ممتنًا للآذان الأمريكية في الدفاع عن لهجة مشوبة كما أشار (جورج فيليب كراب) في بحثه عام 1927 تحت عنوان "هل اللهجة الإنكليزية الأمريكية قديمة؟"
وعلى الرغم من أننا لا نعرف على وجه التأكيد كيف كانت لهجة شكسبير أو الإنكليزية الإليزابيثية حقًا؛ يشير الاستماع لأمثلة إعادة البناء اللغوي للِّفظ من الشعر والتعليق إلى أن خطاب شكسبير كان أكثر تشابهًا مع بعض لهجات الريف الغربي البريطاني المعاصرة من الإنكليزية الأمريكية، وقدم (كراب) من بين أخرين حجة قوية ضد النظرية التي تقول بأن اللهجة أو اللغة المزروعة في مكان جديد تملك تطورها اللغوي فجأة في مكان الاستعمار؛ ولذلك فإن الأمثلة مثل الأمريكية الإنكليزية أو الفرنسية الأكادية (إحدى مناطق المستعمرات الفرنسية في كندا) يجب ببساطة أن تكون أقدم من اللهجات التي تستمر بالتطور في مناطقها.
تطورت المستعمرات الأمريكية، التي لم تكن مجتمعات معزولةً أبدًا، ثقافيًا ولغويًا كونها كانت في تواصل دائم وحيوي مع العالم الخارجي ومع تدفق نافع من المهاجرين من بريطانيا وأوروبا وبلدان اخرى؛ فقد كان المستعمرون الأمريكيون مستعدين للتنقل أسرع من نظرائهم البريطانيين حيث استُوطنت الأرض، وكان هناك حاجة ملحة للتفاعل مع الناس من خلفيات وطبقات اجتماعية مختلفة لتشكيل مجتمع مستقل ذاتيًا.
الحقيقة هي أنه في بوتقة الصهر اللغوي حيث يوجد الكثير من اللهجات واللغات المتفاعلة جميعها في الاندفاع المجنون لفهم بعضها البعض، يحدث نوع من التسوية اللغوية؛ أي تصبح سمات الكلام الأكثر تميزًا محايدة أو يُلغى معظمها، وذلك لأن اللهجات تمتزج بعضها ببعض في ظل تأثيرات اجتماعية محددة وتظهر صيغة مشتركة للكلام أو اللهجات التي أمست لغة سائدة في منطقة ما. لم تُزرع لهجة واحدة غير متغيرة على نحو تام. فالإنكليزية الأمريكية ليست إنكليزية القرن 18 البريطانية المتوقفة في الزمن في حين تتغير اختلافات الإنكليزية البريطانية باتجاه مختلف، وكذلك هو الأمر بالنسبة للهجة الأمريكية الإنكليزية؛ فهي تتطور وتبتكر ولكن أيضًا تُحافظ على سمات لغوية محددة ذات معنى لمجتمعها المتكلم بطريقة الإنكليزية البريطانية نفسها.
توضح دراسة أجراها (لونغمور) كيف يحدث ذلك؛ بالطبع فإن لهجة سائدة في منطقة ما مثل الإنكليزية الأمريكية الاستعمارية شكلت في ظل تأثير المهاجرين لهجاتٍ تغذيها والتي جاء معظمها من جنوب إنكلترا، ولكنها أيضًا خضعت للتسوية بالتواصل العملي - إذ ينتقل الأشخاص من مكان إلى آخر، ويقللون من استخدامهم لصيغ محددة من أجل فهم بعضهم بعضًا، ما يؤدي إلى استخدام طرق أكثر عمومية للتحدث. وأخيرًا، فإن التأثيرات الثقافية والاجتماعية في غاية الأهمية لعدد المهاجرين الناشئ الذين يريدون أن يحققوا نوعًا مختلفًا من الوضع الاجتماعي وأدى التنقل دورًا كبيرًا في مزج هذه اللهجات.
ولكن لكي يتجذر الإبداع اللغوي، فإنك تحتاج إلى مجموعة من أطفال المستعمرين، وقد تكيف المستعمرون مع أنماط مختلفة من الكلام واعتمدوا عليها، ودمجوا لهجاتهم مستفيدين من العديد من المراوغات الإقليمية، والتي انتقلت بدورها إلى أطفالهم المستعمرين المبتكرين، الذين طوروها أكثر وأصبحوا أول متحدثين أصليين لهذه اللهجة الأمريكية الجديدة. لم يتبع جيلَ المستوطنين المؤسسَ، الذي بدأ من حفنة من اللهجات، تدفقٌ هائل من المهاجرين ذوي لهجات ولغات أخرى على الفور حتى أُنشئت اللهجة الأمريكية التي أمست سائدة في الغالب من قبل أجيال جديدة من الأمريكيين، وعند هذه النقطة بدأت موجات المهاجرين تبني الطرق السائدة للتحدث. قد يكون المهاجرون الوافدون حديثًا، سواء أكانوا بريطانيين أم أيرلنديين أم ألمانًا أم سويديين، قد استوعبوا لهجات المستعمرات المهاجرة وتبنوها التي ظهرت حديثًا وأمست سائدة، وفي الوقت نفسه كانوا يتحدثون بلهجاتهم الإقليمية في المنزل، وفي نهاية المطاف تخلى العديد منهم عن لغتهم الأصلية وتبنوا تلك السائدة في المجتمع اللغوي الأوسع.
لذلك، وبحلول وقت التوقيع على إعلان الاستقلال، من الواضح أن الأميركيين لم يكونوا مضطرين إلى الاحتفاظ بلهجتهم الأصلية مع البريطانيين - لقد تحدثوا باللهجة الوطنية التي تطورت بانتظام على مدى جيلين على الأقل قبل عام 1776.
المصدر:
هنا