باروخ سبينوزا
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> أعلام ومفكرون
وُلد المفكر والفيلسوف الهولندي بينيديكت دي سبينوزا أو "باروخ" سبينوزا في الرابع والعشرين من شهر نوفمبر عام 1622، وينحدر سبينوزا من أسرة برتغالية يهودية هاجرت إلى هولندا في نهاية القرن السادس عشر تقريباً، وهناك أصبح والدُه تاجراً مهماً وعمل مديراً ضمن إدارة كنيس المدينة.
حصل سبينوزا على ثقافةٍ جيّدة في مدرسة يهودية محلية تركز على تعليم اللغة العبرية، وتحفيظ الكتاب المقدس وقواعد العمل.
لُوحظ على سبينوزا تفرّده بأفكاره وبدأ يجذب الأنظار وهو في أوائل العشرينات من عمره، وخاصة بعد أن اتّبعَ نظامَ تعليمٍ ذاتيٍّ، فبدأ بتعلّم اللاتينية من تلقاء نفسه، ثم بدأ يختبر الشَّكَّ في ثقافته التوراتيَّة والإيمان بالأرواح والخلود، ووجد نفسه عاجزاً عن قبول اللاهوت اليهوديِّ الأرثوذكسيِّ وتأويلِ الكتب المقدسة.
وفي عام 1656 -ولم يكن يبلغ من العمر سوى أربع وعشرين عاماً- حُرِم بصورةٍ جديّةٍ من المشاركةِ الكنسيّة، واستُبْعِدَ من الطّائفة اليهودية، ولم يُسمَح حتى لعائلته بالتواصل معه. ومع هذا الضغط العاطفيِّ والاجتماعيِّ كله لم يُبدِ أيَّ ردِّ فعلٍ، وشَرَعَ في صقل العدسات كونها وسيلةً لكسب رزقه، وبقي منفتحاً وملتزماً وأصبح معروفاً جداً في الدوائر الثقافية في هولندا.
تأثر سبينوزا في بدايةِ مسيرته بأفكارِ الحاكمِ الفرنسيّ "إسحاق لابيرير"مؤلِّفِ كتاب"Men before Adam" الذي طعن في صحّة الكتاب المقدس وتحدّث فيه عن وجود البشرِ قبل آدمَ وأنّ الكتابَ المقدّسَ يروي تاريخََ اليهود لا تاريخََ الإنسانية؛ إذ ظهرتِ العديد من أفكار لابيرير عن الكتاب المقدس في كتابات سبينوزا.
وكان للديكارتيَّة تأثيرٌ في أفكاره أيضاً، وكانت إلى حدٍّ ما- أداةً في تشكيل فلسفته على الأقل؛ فمن جهةٍ أمدته بمثلٍ أعلى عن المنهج، ومن جهة ثانية أمدّته بمثلٍ جيّدٍ أعلى عن مصطلحاته؛ فمقارنة تعريفات سبينوزا للجوهر وللصفات بتعريفات ديكارت مثلاً تكشف بوضوحٍ إلى حدٍ كبير أنّه يدين للفيلسوف الفرنسي، وقد تأثر من جهة ثالثة دون شك وبصورة إيجابية بمعالجة ديكارت لمسائل خاصة معينة؛ فقد تأثر بتأكيد ديكارت أنه يجب علينا في الفلسفة ألا نبحث إلا في العلل الفاعلة ولا نبحث في العلل الغائية، وبالمقابل طوّر سبينوزا المضامين المنطقية الديكارتية في اتجاه واحديٍّ ونادى بوحدة الوجود.
ترى فلسفة سبينوزا الكون كأنه يسير وفقَ قوانينَ فيزيائيَّةٍ صارمةٍ لا تسمح بأيةِ معجزات دون هدف أو غاية ترتبط بالعقل.
ومع أفكار كهذه نعرفُ لماذا عُدَّ أوَّلَ فيلسوفٍ حديثٍ بالفعل يحاول أن يتخلّى عن العقائد والخرافات ليعانق الكون الطبيعي.
وحاول بفلسفته تدميرَ فكرةِ بناء الكون من أجل الجنس البشري، إذ كانت فكرة "أنه ليس هناك من هدف للطبيعة" إحدى أهمِّ الأفكارِ في كتابه الأخلاق، فعلى الرغم من وجود الكون وفقاً لقوانين محددة فليس لديه في الوقت نفسه هدفٌ يتجه إليه.
وأوضح أيضاً أن الخير والشرّ ليسا أكثر من مشاعر الفرح والألم، ويكون شيءٌ ما جيداً إن كان يحافظ على وجودنا ويعززه، ويكون سيئاً إن أضعفه، و"الإثم" غير موجود إلا في المجتمع، وإن ما يُشكِّلُ الخيرَ أو الشّرَّ "يُوضَّحُ باتّفاقٍ مشتركٍ"؛ أي الإثم هو عدمُ الالتزام بالقوانين التي اتُّفِقَ عليها، ويقول: "نحن نحكم على شيء ما بأنه جيد لأننا نسعى إليه ونطلبه ونريده ونرغب به".
وفي نظرته للحياة أوضحَ أنه لا يجبُ أن نعيش فقط وفقَ ما نخشاه أو نرغب بتجنبه؛ بل وفقاً للبهجة التي نسعى إليها في العيش وفقاً للمنطق؛ إذ كانَ يرى أن السعادة لا تنبع من الرغبة أو المتعة؛ بل من المنطق الذي يتضمّن معرفتنا بأنفسنا وبالعالم المحيط بنا بقدر ما يسمح ذكاؤنا بهذه المعرفة.
وبذلك يهدف سبينوزا بواسطة أعماله إلى تزويدنا بمعالجة أكثر ثباتاً للدين والطبيعة وعواطف الإنسان، والانتقال من الأفكار غير الملائمة إلى الأفكار الملائمة؛ راصفاً الطريق أمام منظورٍ علميٍّ حديثٍ مفترضاً أننا نحتاج إلى دراسة الكون موضوعياً بقدر ما نستطيع.
توفي سبينوزا عام 1677 للميلاد وهو في الرابعة والأربعين من عمره بعد أشهر فقط من لقائه مع الفيلسوف الألماني "ليبتنز" ونُشِرَ كتابُ "الأخلاق" بعد وفاته مباشرة.
المصادر:
1. هنا
2. هنا
3. كوبلستون، فريدريك. تاريخ الفلسفة مج4، ترجمة وتعليق:سعيد توفيق، محمد سيد أحمد الطبعة الأولى، القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2013.
4. باتلر، توم. إضاءات فلسفية، ترجمة:متيم الضايع، الطبعة الأولى، اللاذقية: دار الحوار، 2018.