وهم الزمن
الفيزياء والفلك >>>> فيزياء
يُعدُّ هذا الوصفُ للكَون تقريبيًّا من منظورنا وتجربتنا نحن البشر؛ إذ يُحدَّدُ وجودنا بين لحظة الميلاد ولحظة الوفاة ونُتبِعُ زيادة الإنتروبيَّةِ على تدفِّق الزمن، أمَّا العِلم فيفكِّكُ مفهوم الزَّمن أكثر فأكثر، إلى درجةِ أنَّ الزَّمن في نظر بعضِ العلماء ليس موجودًا؛ أي إنّ أزمنة الماضي والحاضر والمستقبل موجودة معًا بلا انفصال.
التَّركيب الأساسي للعالَم كما نراه:
نختبرُ جميعنا مرورَ الزَّمن -شعوريََّا- بسيره بمعدَّلٍ ثابتٍ ومتساوٍ في جميع أرجاء الكون، وعبره؛ أي الزَّمن؛ تجري جميع الأحداث. فالحاضر موجودٌ حولنا؛ وبه يُِوسَمُ الواقع (الآن)، أمَّا الماضي فهو حدثٌ انتهى، في حين أنَّ المستقبل مفتوحُ الاحتمالات وغير مُحدَّد بعد. ينبعث الواقع بدءًا من الماضي مرورََا بالحاضر ومنه إلى المستقبل، وإنَّ تطوُّرَ الأشياء بين الماضي والمستقبل غير متناظرٍ جوهريََّا.
لكنَّ صورة الزَّمن المألوفة هذه انهارتِ الآن، وأضحت مجرَّد تقريبٍ لحقيقةٍ أكثر تعقيدََا؛ فالحاضر ليس ثابتََا في أرجاء الكون، والأحداث ليست مرتَّبةًَ من الماضي إلى الحاضر ثم المستقبل، بل إنَّها مرتبةٌ جزئيََّا فقط؛ أي إنَّ حاضرنا مختلفٌ عن حاضر المجرَّات البعيدة.
يقودنا ما سبق إلى نتيجة: الحاضر ظاهرةٌ محليَّةٌ (محدودة) وليس ظاهرةََ كونيَّة (مطلقة).
ثم إنَّنا لا نستطيع تمييز الماضي من الحاضر في المعادلات الأساسية التي تصف الأحداث في الكون؛ إذ يظهر الفرق بين الماضي والمستقبل فقط -بالنِّسبة إلينا- لأنَّنا نرى المَجرى الذي تتخذه الأحداث في العالَمِ عند حالةٍ محدَّدةٍ.. وما هذا إلا نتيجة وهم.
إذًا؛ بالاستناد إلى الفيزياء الأساسيِّة في عالمنا، لا وجود للزَّمن (ولا وجود للمكان أيضًا). أمَّا محليَّا؛ يمرُّ الزَّمن بسرعاتٍ مختلفةٍ تبعًا لمكاننا وللسُّرعةِ التي نتحرَّك بها؛ فيتباطأ الزّمن بازدياد سرعتنا، ثم إنّ المدَّة الزَّمنيِّة بين حدثَين ليست ثابتةً، بل إنَّ لها احتمالاتٍ عدَّة.
تُحدَّدُ إيقاعاتُ (تواترات) مرور الزَّمن بواسطة حقل الجاذبيِّة؛ الذي يمتلك ديناميكيَّةً خاصَّةً مُوضَّحةً في معادلات آينشتاين، ويمكننا عدُّ الزَّمن والمكان -بتجاهل الآثار الكموميَّة- هلامًا عظيمًا يغمُرنا، أمَّا في عالَمِنا الكموميَّ، فإنّ هلامَ الزَّمكان فكرةٌ تقريبيَّة أيضًا؛ ففي قواعد العالَمِ الأساسيَّةِ لا وجود لزمانٍ ولا وجودَ لمكان، وإنّما عمليَّات تحوُّلٍ في الكميَّات الفيزيائيَّةٍ من إحداها إلى الأخرى، وتُحدَّدُ الاحتمالات والعلاقات عن طريق عمليَّات التَّحوُّل هذه.
لغز الزمن
ما سرُّ الاختلاف بين "الزَّمن" في معادلات الفيزياء و"الزَّمن" الذي نُدركُه؟
على المستوى الأساسيِّ الذي نعرفه حاليًا؛ لا يتشابه الزَّمن -الموجود- في المعادلات مع الزَّمن الذي نختبره إلا في حالاتٍ قليلة، فالزَّمن -في المعادلات- ليس متغيَّرًا خاصَّا، ولا فرق بين الماضي والحاضر والمستقبل، وليس هنالك زمكان، وعلى الرُّغم من ذلك؛ لا يزال بمقدورنا وصف الكون بمعادلات تتطوَّر فيها المُتغيِّراتُ استنادًا لعلاقتها بعضُها ببعض.
والكون ليس سكونيًّا بحيث يكون التَّغيَُر مجرَّد وهم، بل على العكس؛ كونُنا هو كونُ أحداثٍ وليس أشياء، وهذه خطوةٌ نحو كونٍ بلا زمن. لذا فإنَّ مهمَّتنا الآن هي محاولة إدراكِ كيفيَّة ظهور الزَّمن بالشَّكل الذي نعرفه في هذا الكون، ونتفاجأ هنا بأنَّنا نؤدِّي دورًا عند ظهورِ جوانبَ مألوفةٍ للزَّمن.
إنَّ تفاعلنا مع الكونِ جُزئي؛ وهذا ما يُسبِّب رؤيتنا الضَّبابية، ثم إنَّ عالمنا الكموميَّ يتَّصف بخاصيَّة عدم التَّحديد؛ الّتي تضع حدودًا لمعرفتنا، ويقتضي جهلنا هذا وجودَ زمنٍ حراريٍّ ذي إنتروبيَّةٍ تُعبِّر عن مدى عدم اليقين (عدم التَّحديد) الذي يترافق مع معرفتنا، لذلك نرى -من منظورنا؛ نحن المخلوقات التي تشكِّل جزءًا صغيرًا من الكون- أنَّ أحداث الكونِ تجري عبر الزَّمن.
ربَّما ننتمي إلى جزءٍ فرعيٍّ مُحدَّدٍ من العالم يتفاعل مع بقيَّة الأجزاءِ بما يُظهِرُ أنَّ الإنتروبيَّة منخفضةٌ في جهةٍ واحدةٍ من زمننا الحراري؛ لذلك يكون اتِّجاه الزَّمنِ حقيقةً، لكنَّها حقيقةٌ تعتمد على منظور المُراقِب؛ ولهذا السَّبب تزدادُ إنتروبيَّةُ العالَمِ في علاقته معنا بواسطة زمننا الحراري. نرى حدوث الأشياء مُرتَّبًا في هذا المُتغير؛ الذي ندعوه ببساطة: الزَّمن، وزيادةُ الإنتروبيَّة تميِّز لنا الماضي عن المستقبل وتقتضي وجود آثارِ الماضي وذكرياته، ونحن -البشرَ- حصيلةٌ من تاريخ زيادة الأنتروبيَّةِ العظيم هذا؛ مقيَّدون معًا بالذَّاكرة التي أُتيحت بسبب هذه الآثار، وكلُّ فردٍ منَّا كيانٌ مُوحَّدٌ؛ لأنَّنا نعكس صورة العالَم؛ ولأننا شكَّلنا صورةً عن كيانٍ مُوحَّدٍ عبر التَّفاعل بين أفراد نوعنا، ومن هنا يأتي ما ندعوه "تدفُّق" الزَّمن.
الزّمن في الفيزياء
"الزَّمن" هو أحد متغيِّراتٍ كثيرةٍ تصفُ العالَم، وهو أحدُ متغيِّرات الحقل الثَّقالي. ولأنَّنا لا نُسجِّلُ التَّقلبات الكموميِّة في مقياسنا؛ يُمكن أن نعُدَّ الزّمكان مقدارًا محدَّدًا.
لِنتخيَّل الزَّمكان طاولةً ذات بُعدين؛ نسمِّي أحدهما "المكان" ونسمِّي الآخر"الزَّمن"؛ وهو ذو إنتروبيَّةٍ مُتزايدة. نتحرَّك في حياتنا اليوميَّةِ -على هذه الطَّاولة- بسرعاتٍ صغيرةٍ مقارنةً بسرعة الضَّوء؛ لذلك لا نُدرك ارتباط الزَّمن بالسُّرعةِ التي نتحرَّك بها ولا بالكتلة المُتحرِّكة، وبذلك يُمكنُ الحديث عن زمنٍ وحيد عوضًا عن أزمنةٍ عديدةٍ مُحتملة.
يمكننا وصف الزَّمن -وفقًا لبنيته الفيزيائيِّة المشروحةِ آنفًا- بأنّه مفهومٌ معقَّدٌ مُتعدِّد الطبقات ذو خصائصَ مُتعدِّدة ومتميِّزة مُستمَدَّةٍ من تقديرات تقريبية مختلفة، وإذا لم ندرك أنَّ الطبقات المختلفة مُستقلَّةٌ عن بعضها فستكون العدُيد من نقاشاتنا في مفهوم الزَّمن مُربِكة؛ ولذلك كثيرًا ما أسَرَنا غموضُ الزَّمن وأثار مشاعرَ عميقةً غذَّت الفلسفات والأديان.
إنَّ كثيرًا من أجزاءِ هذه النظرية الافتراضية متينٌ، وبعضُها الآخر مقبول، وبعضٌ منها لا يزال مجرَّد تخميناتٍ في محاولةٍ لفهم النظرية الكاملة. أمَّا الموثوق به تمامًا؛ فهو الحقيقة العامة بأن البِنية الزمنية للعالَم مختلفةٌ عن الصُّورةِ السَّائدة التي نتخيلها. وهذه الصُّورةُ مناسبةٌ في حدود حياتنا اليومية، لكنَّها لا تُمكِّنُنا من فهم العالَم في طيَّاته الدقيقة ولا في اتساعه الكبير، وهي -في جميع الاحتمالات- لا تكفي حتَّى لفهم طبيعتنا؛ لأن سرَّ الزَّمن يتقاطع مع سرِّ هويتنا الخاصَّة ومع سرِّ الوعي.
لقد أدَّى الزََمن إلى ظهورِ كثيرٍ من الأفكارِ الفلسفيَّة؛ مثل أفكار هِرَقْليطس وهنري بيرغسن، ولكن دون التَّمكن من فهم طبيعته.
تعطينا الفيزياءُ الأملَ في أن نكون قادرين على دراسةِ طبيعةِ الزّمن متحرِّرين من الضَّباب النَّاجم عن عواطفنا، ويبدو أنَّ بحثنا عن الزَّمن -مُبتعدين عن أنفسنا بازدياد- قد أدَّى بنا إلى اكتشاف شيءٍ عن أنفسنا؛ ربَّما كما انتهى الأمرُ بكوبرنيكوس عندما فهِمَ حركةَ الأرض ابتداءً من دراسة حركة السَّماوات. وقد لا يكون البعد العاطفيُّ للزَّمن هو الضَّبابَ الذي يمنعنا من إدراك طبيعة الزَّمن بموضوعية، وربما تكون عاطفتنا المُرتبطة بالزمن هي الزمن تحديدًا.
المزيد في مقالنا السابق:
هنا
المصادر:
هنا
هنا