عالم جديد من عوالم نيتشه في كتابه (هذا هو الإنسان)
كتاب >>>> الكتب الأدبية والفكرية
وُلِد فريدرك نيتشه (1844-1900) في لوتس، وتُوفِّي في مدينة فايمار في ألمانيا.
هو فيلسوف ألمانيٌّ وناقد ثقافيٌّ وشاعر وملحِّن ولغويٌّ، وقد كان لفلسفته أثرٌ كبير في تاريخ الفكر الحديث، ويعدُّ نيتشه مُلهِمًا للمدرسة الوجوديَّة وما بعد الحداثة في مجالَي الفلسفة والأدب.
من أهم مؤلفاته:
· في جينالوجيا الأخلاق.
· هكذا تكلَّم زاردشت.
· ما وراء الخير والشر.
· إنسان مفرط في إنسانيته.
سوف نبدأ بالقوة التنبؤية في الكتاب إن صح التعبير، وهنا نقصد -على وجه التحديد- النصَّ المذكور في مقدمة الكتاب؛ إذ يقول فريدرك نيتشه في آخر كتاب له (هذا هو الإنسان)؛ وهو الذي نُبحر فيه الآن: "أعرف قدري؛ سيقترن اسمي ذات يوم بذكرى شيء هائل رهيب، بأزمة لم يُعرف لها مثيل على وجه الأرض، أعمق رجَّة في الوعي؛ فأنا لست إنسانًا، بل عبوة ديناميت، ولا أتحدث إلى كتلة الجماهير البتَّة؛ فأشدُّ ما يُخيفني هو أن يُكَرِّسني الناس ذات يومٍ قداسةً. وبإمكان المرء أن يُخمِّن السبب الذي يدفعني إلى نشر هذا الكتاب قبل أن يحدث ذلك الأمر، سيكون عليه أن يحميني من أيِّ استعمال شنيع سيئ العواقب؛ فأنا لا أريد أن أكون قدِّيسًا، بل أُفضِّل أن أكون مهرِّجًا، ولعلَّني أضحوكة بالفعل، ومع ذلك؛ فالحقيقة هي التي تُنطَق عن طريقي، ولكنَّ حقيقتي فظيعة؛ ذلك أنَّ الكذب هو ظلٌّ يُدعى حقيقة حتى الآن".
ومن ناحية أخرى؛ يعود نيتشه ليُذكِّرنا من جديد -في بداية الكتاب- أنَّه يثق تمامًا أن "زاردشت" سوف يُدرَّس في الجامعات يومًا ما، ويكون مرجعية فلسفية وفكرية للأدباء القادمين، مع أنَّ "فريدرك نيتشه" لم يكتسب تلك المرتبة المميَّزة بين الفلاسفة في عصره، بل كان عاديًّا وأقلَّ من ذلك.
وما نقصد به (قوة التنبؤ) -كما ذُكر أعلاه- هو أنَّ هذا الكتاب نُشِر بعد موت فريدرك نيشته بأعوام ثماني؛ أي قبل 111 عام من اليوم؛ فقد أدرك أنَّ هناك أجيالًا ستأتي من بعده لتراجع كتابه الذي يُحذِّرنا من رجَّة الوعي؛ لأنَّه علبة ديناميت -كما قال- وليُحذِّرنا من أن نُقدِّسه أيضًا. بل يطلب منا أن نَنبُذه ونَعدَّه مهرِّجًا وأضحوكة؛ وقد قال ذلك لأنَّه يعلم أنَّ التاريخ سوف يكتب اسمه في خانة الفلاسفة المؤثِّرين بما بعد الحداثة وبالفلسفة الغربية، وهذا هو الحال مع كتابه "هكذا تكلَّم زاردشت"؛ إذ لم يُخطئ نيتشه بتوقعاته أيضًا؛ فقد احتلَّ الكتابُ الكراسي الجامعية والأكاديمية بعد موته فعلًا.
يبدأ الكاتب بالإشارة إلى إسقاط القدسية عن الكهنة واللاهوت والفلاسفة والأدباء وكلِّ شخص ادَّعى امتلاكه الفضيلة، فبدأ بنفسه وقال: "أنا مثلًا؛ لست فزاعة على الإطلاق، ولا أنا غولٌ أخلاقيٌّ، بل إنَّني من طبيعة نقيضة لذلك الصنف من البشر الذي ظلَّ الناس يقدِّسونه مثالًا للفضيلة حتى الآن".
ويكمل فكرته تلك بأن يضع تقييمًا لهؤلاء الجبناء -حسب وصفه- غير القادرين على مواجهة الحقيقة أو ما سمَّاه نيتشه "العالم الواقعي"، وكان تقييمه يعتمد على نقطة أساسية؛ وهي سؤاله الشهيّ: "أيّ قدر من الحقيقة يستطيع العقل أن يحتمل؟ وإلى أيِّ حدٍّ يجرؤ أن يمضي في الحقيقة؟"
وقد كُتِب النصر لفلسفة فريدرك نيتشه تحت هذه العلامة حين قال: "أتطلَّع إلى كلِّ ممنوع".
ويقدِّم لنا الكتاب أول ثلاثة أقسام على شكل أسئلة دون إشارة استفهام؛ وهذا للدَّلالة على أنَّه يقول ولا يتساءل.
· لماذا أنا على هذا القدر من الحكمة.
يوضِّح هذا القسم تعبيرًا صريحًا عن الصلابة والربح من الألم والأذى؛ (فكلُّ ما لا يتسبَّب في الهلاك لا يمكن إلا أن يجعلك أكثر صلابة)، وكلُّ حياتك تترتَّب على هذه المقولة المختصرة؛ لكي تكتسب صلابتك وحكمتك لا تحزن من فشلك ومن خطئك؛ فالخطيئة أسمى الفضائل لأنَّها تصنع حكمتك وتصنعك أنت أيضًا لتكون أفضل دائمًا.
ويعطي نيتشه أهميةً عظمى للنظام الصحيِّ في كتابه، مستعينًا بتعاليم "بوذا" والفيزيولوجيا ليقرِّر نظامه الغذائيّ من منطلق فلسفيٍّ أخلاقيٍّ. ويُشير نيتشه إلى أنَّ الحكمة مرتبطة بالتخلُّص من الضغينة والوضوح تجاه الضغينة، ويمثِّل ذلك بحربه الأولى مع المرض التي غَربَل نفسه بها من الكره والحقد على أيِّ أحد؛ فيقول: "إنَّك تجد عند المرض والاقتراب من الهاوية نقاءً كافيًا لتصل إلى ذاتك النقية؛ فالمرض فضيلة أيضًا".
ينتهي هذا القسم من الكتاب بالحديث عن أنَّ الطبيعة القوية تحتاج إلى مقاومة، وكما ينتمي النزوع العدوانيُّ إلى القوة، تنتمي مشاعر الانتقام إلى الضعف. ويقول "فريدرك" ليشرح تلك العلاقة مستعينًا بالمرأة: "المرأة ذات نزوع انتقاميٍّ؛ وهو أمر مرتبط بضعفها؛ مثل حساسيتها تجاه الآخرين تمامًا"
أما قواعد الحرب لدى نيتشه؛ فهي أربع قواعد لإعلان الحرب على أحدهم يجب أن تُدركها لتكون على قدرٍ من الحكمة.
أولًا: لا أُهاجم إلا ما هو مجلبة للنصر، وإن اقتضى الأمر؛ أنتظر وأنسحب حتى أَثِق أنه مجلبة للنصر.
ثانيًا: لا أُهاجم إلا ما لا حليف لي عليه؛ إذ أقف وحيدًا في المعركة، ولا أورِّط إلا نفسي، فذلك هو -في رأيي- المقياس الصحيح للسلوك الأخلاقيِّ.
ثالثًا: لا أُهاجم الأشخاص على أنهم أشخاص أبدًا، بل أستعمل الأشخاصَ زجاجًا مكبِّرًا يُمكن للمرء بواسطته أن يجعل من كارثة عمومية مراوغة ومتستِّرة ومستعصية على الإدراك أمرًا واضحًا للعيان.
رابعًا: لا أهاجم إلَّا كلّ من هو خالٍ من كلِّ خلاف شخصيٍّ ومن كلِّ خلفيات التجارب السيئة.
ويشرح لنا "نيتشه" في القسم الثاني (لِمَ هو على هذا القدر من الذكاء؟).
يعمل فريدرك نيتشه على تهميش أكثر الأفكار الجدلية في الوجود ليُعبِّر عن أحد أسرار ذكائه؛ فيقول: ".. الخلود والروح والخلاص والآخرة.. كلُّها مفاهيم طفولية لم أعرها اهتمامي البتَّة، ولا حتى كصبيٍّ.. ولعلَّني لم أكن صبيانيًّا بما فيه الكفاية لمثل تلك الأشياء، وبالنتيجة لم أعرِّف الإلحاد إطلاقًا، وأستطيع التعبير عنه أنَّه أمر بديهيٌّ لديَّ..".
ينتقل الكاتب في السؤال الثالث "لمَ أكتب كتبًا جيدة؟"، إلى سؤال مهم لقرائه ومهم للكتَّاب وفضولهم ورغبتهم في أن يفهموا كيف يكتب "نيتشه" كتبًا جيدة، فيُشير لنا أنَّه لا يكتب لتُقرَأ كتبه، بل يكتب لنفسه؛ ليَقرَأ نفسه، ويبحث ويفكِّر بصوتٍ عالٍ.
ويُكمل لنا الكاتب مسيرة النقد التي تعرَّض لها في حقبته الزمنية، بل يصف متعته بعدم فهم أحدٍ ما يكتب؛ لأنَّه يثق أنَّ حفنة الكلمات التي أطلقها وُجِدَت لحقبةٍ زمنية أُخرى؛ وهذا ما حدث فعلًا، وها نحن الآن نراجع واحدًا من كتبه.
ويُشير أيضًا أنَّه من أسرار أن تكون كاتبًا جيدًا هو أن تقلب المفاهيم، وتتجرَّد من رؤية القارئ لك ولكتابك، وتتخلَّص من اهتمامك بما سيراه في كتابك؛ بل اكتب عن كلِّ ممنوع لا تتجرَّأ على الاعتراف به في عصرك؛ ومن الأمثلة على تلك الفكرة في الكتاب قوله:
"إنَّ الدعوة إلى العفَّة تحريض عموميٌّ على معاكسة الطبيعة، وكلُّ تحقير للحياة الجنسية، وكلُّ تدنيس لها بفكرة الدنس هي الجريمة بعينها في حقِّ الحياة، والخطيئة الحقيقية في حقِّ الروح القدس للحياة".
هكذا قدَّس فريدرك نيتشه الحياة الجنسية، وقلب ما بين الفضيلة والرذيلة في زمن يحمل قِيَمًا معاكسة تمامًا لمفهومه.
وفي قسم "مولد التراجيديا" من الكتاب؛ يُقدِّم لنا نيتشه علاقته الرائعة مع التراجيديا الجديدة كما سمَّاها، ويصف لنا رأيه بعلاقة التراجيديا مع الفلسفات أجمع؛ ومنها الأفلاطونيَّة والإغريقيَّة، فقد كان يراها الانتصار على التشاؤم، والانتصار على الخبث البشريِّ لتصنع عصرًا جديدًا كُلَّ حين، وهنا عدَّ نفسه أول فيلسوف تراجيديٍّ؛ أي بمعنى النقيض والطرف الأقصى المضاد للفيلسوف المتشائم.
أمَّا ما تبقَّى من الكتاب؛ فهو قراءة فلسفية من فريدرك نيتشه عن كُتبه نفسها؛ مثل؛(أصل الأخلاق وفصلها)، و(إنسان مفرط في إنسانيته)، و(هكذا تكلَّم زاردشت).
معلومات الكتاب:
اسم الكتاب: هذا هو الإنسان
الكاتب: فريدرك نيتشه
المترجم: علي مصباح
نشر عبر: منشورات الجمل، بيروت – بغداد في عام 2003
عدد الصفحات: 166