ستيتة المحاملي.. عالمة الجبر البغدادية
الرياضيات >>>> الرياضيات
وفي منتصف القرن العاشر الميلادي إذا كنت شخصًا لديه روح فضولية فلا يوجد سوى مكان واحد يجب أن تذهب إليه: بغداد، بيت الحكمة، العاصمة الإسلامية التي بناها الخليفة أبو جعفر المنصور.
في هذه المدينة حيث قواعد العلوم، يرسل الخليفة علماءه ليبحثوا في العالم عن مخطوطات تحمل حكمة يونانية مفقودة، ويدعو الوفود من الهند لشرحِ نظام العدّ المكون من عشرة أرقام، ويرسل علماء الرياضيات في بعثات لقياس انحناء الأرض، وتُضغط التكنولوجيا الورقية المستوردة من آسيا؛ خدمةً لتغذية صناعة الكتب الصاخبة التي تدعم بنفسها جيشًا صغيرًا من المترجمين والمعلقين والشعراء والباحثين، ويسارع كلهم إلى إطعام السكان والحكومة في حالة سكر على أمجاد الكلمة المكتوبة.
إذا وجدت طريقك إلى هذه المدينة المشرقة والمفعمة بالعلم، وإذا كنت تفكر في الرياضيات؛ فينبغي لك إجراء اتصال واحد محدد بمنزل القاضي أبي عبد الله الحسين، ستجد هناك ابنته ستيتة المحاملي (ت 987)، التي اشتهرت بعقلها القانوني، إضافةً إلى إتقانها الرياضيات، وهي امرأة عبقرية احتُفل بثقافتها على نطاق واسع، وأثنى على قدراتها ثلاثة من أعظم مؤرخي حقبتها، وللأسف لا تُذكر اليوم إلا على الحواشي في صفحات التاريخ.
هي: أمة الواحد بنت القاضي أبي عبد الله الحسين بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن سعيد بن أبان المَحَامِلِي الضبي، وُلِدت في بغداد في بدايات القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وتُنسب إلى أسرة (المَحامِلي)، وهي أسرةٌ اشتهرت بتفوُّقها العلمي، وتألَّقت وعلا شأنها، وذاع صيتها، وسجل التاريخ أخبارها وسيرتها ومسيرتها في رحلة التعليم الطويلة؛ إذ نعرف كثيرًا عن والدها وابنها وحفيدها، الذين كانوا يُعدُّون قضاة وعلماء جيدين، وذلك أكثر مما نعرف عنها.
درست هذه العائلة الأدب العربي والفقه والتفسير والرياضيات مدة مئتي عام، قبل أن تفرز أوروبا نساء من التعليم العام والشهرة على شاكلة إلواز أرجنتوي Heloise of Argenteuil، وتروتا ساليرنو Trota of Salerno، إذ نعلم أنه كانت تُستشار على نطاق واسع نظرًا لمعرفتها القانونية والرياضية، وأنها حلت مشكلات الميراث التي تنطوي على معرفة متقدمة في الحقل الجديد لذلك العصر: الجبر.
ويصفها خير الدين الزركلي في كتابه الأعلام: «فاضلة وعالمة بالفقه والفرائض (علم المواريث) وحاسبة من أهل بغداد، كانت من أحفظ الناس للفقه.. وكانت تُفتي، وحدثت وكُتِب عنها الحديث».
ويقول عنها «الذهبي» في كتابه سير أعلام النبلاء: «حفظت القرآن والفقه للشافعي، وأتقنت الفرائض، ومسائل الدور والعربية، وغير ذلك».
أما سليم الحسني، رئيسُ مؤسسة العلوم والتكنولوجيا والحضارة، المشرف على إعداد كتاب «اكتشف التراث الإسلامي في عالمنا - ألف اختراع واختراع»، الذي يَعْكِف على رصدِ مخطوطاتٍ عن نساءِ العلمِ والتكنولوجيا في العالمِ العربي والإسلامي عَبْرَ التاريخ، يقول: إن مؤسسة العلوم والحضارة عثرت حديثًا -على سبيل المثال- على بحوث في مركز التراث في بغداد عن عالمة بغدادية من العصر العباسي؛ تُدعى «سُتيتة» البغدادية، وقد كانت متخصصة في علوم الرياضيات.
ويوضح الحسني أنَّ الرياضيات أدّت في ذلك الوقت خدمة اجتماعية، ويعطي مثالًا: اعتاد الناس حين بناء منازلهم على إعطاء ما يشبه المقاولة للعمال، فإذا -لسبب ما- بُني نصف المنزل فقط -مثلًا- يتوجهون بشكواهم للقاضي من أجل أخذ حقوقهم. لكن كيف سيحسب القاضي ذلك؟
يجيب الحسني: يذهبون إلى خبراء حساب، مثل سُتيتة التي تستخدم عمليات رياضية وجبر معقدة لقياس حجم البناء، وسطح الأرض وكمية الحجر وساعات العمل...إلخ؛ أي تُجري معادلات رياضية، وتطلع بنتيجة تعرضها على القاضي، وبذا تكون ما نسميه في العصر الحديث «شاهدًا أو خبيرًا علميًّا» expert witness.
وكانت مسائل الميراث وكيفية توزيع عائدات الملكية على نحو صحيح بين الناس من مختلف علاقات القرابة مع المتوفى هي أعشاش الدبابير، وخاصة في الرياضيات، حتى وقعت تحت نظر العقلية الفذة لمحمد بن موسى الخوارزمي (ت 850)، الرجل الذي جمع بين أساليب حل المشكلات الجبرية اليونانية وإثبات الشكليات الديوفانتية مع نظام عددي عشري من العلماء الهنود، لخلق ما نعرف أنه سلف الجبر الحديث. (اسم الجبر في الواقع هو مصطلح صاغه الخوارزمي ويعني عملية إحلال الرموز محل الأعداد المجهولة أو المعلومة). وفي أعماله طبق تقنياته على أنظمة المعادلات المعقدة، التي تَنتج عندما تحاول حساب شبكة من المطالب المتنافسة على التركة.
وقد قدمت «ستيتة» إسهامات أصلية في هذا المجال، كما هي الحال فيما يخص نظرية الحساب أيضًا، التي تأتي في واقع الأمر بفضل اعتماد نظام عددي لم يكن معاديًا بشدة للحساب. (ولتتخيل مدى حُسن حظنا بالعيش في عالم الأرقام العربية/الهندية التي تستخدم الأساس 10 ما عليك سوى النظر في مدى فظاعة أن تحاول الضرب باستخدام الأرقام الرومانية).
وعلى الرغم من أنك لن تتمكن من العثور على مصادر تفصّل أنواع الحلول الدقيقة التي أسهمت بها في الرياضيات فإننا نعرف أن علماء الرياضيات في وقت لاحق أشاروا إلى عملها، ومن ثم يجب علينا إجراء مقارنة بين علماء الرياضيات في وقتها للحصول على تقدير لِما كانت عليه؛ إذ عاشت بعد مئة عام من الخوارزمي وبعد زمن أبي كامل الحاسب (850-930)، عملاقَي الرياضيات العربية الكلاسيكية. وكان كل منهما مهتمًّا بتصنيف حلول لأنظمة كاملة من المعادلات، مثل تقسيم الخوارزمي لجميع المعادلات التربيعية إلى ست فئات قابلة للحل (أو كما كان يعتقد)، أو حلول أبي كامل للمسائل المنطوية على كميات غير حقيقية.
وقد ذكرت في سيرة حياتها أنها لم تكن معروفة لحل المسائل الفردية وحسب، بل في إنشاء حلول عامة لأنواع من المسائل أيضًا، التي يجب أن تكون امتدادًا منطقيًّا لعمل الخوارزمي وأبي كامل، ولما كان عملها يتابع جيدًا ويحصل على التقدير الكافي لدرجة ذكره من قبل مصادر لاحقة؛ فمن العدل أن نقول إنها حققت مستوى ملحوظًا من التطور الجبري، الذي فتح لعلماء الرياضيات العربية مجموعات من المعادلات غير تلك التي حلها أبو كامل الحاسب، وربما تضمن حل المعادلات ذات الشكل التكعيبي، الذي استحوذ على خيال خليفَتيْها القريبين ابن الهيثم (965- 1040) وعمر الخيام (1048- 1130).
المصادر:
1- هنا
2- هنا
3- الأعلام للزركلي.
4- سير أعلام النبلاء للذهبي.