العلاقة بين اضطراب الوسواس القهري والاكتئاب
علم النفس >>>> المنوعات وعلم النفس الحديث
لا يُعدُّ اضطراب الوسواس القهري OCD)Obsessive-compulsive disorder) واحدًا من أكثر الاضطرابات النفسية شيوعًا فحسب، بل يُعدّ أيضًا من أكثر الاضطرابات ذات التأثير المُعطِّل للشخص المصاب به، ومن الممكن أن يملك تأثيرًا مدمّرًا في العلاقات الشخصية والهوايات والفعالية الاجتماعية والأداء في المدرسة والعمل.
ماذا يعاني مرضى اضطراب الوسواس القهري؟
يعاني مرضى اضطراب الوسواس القهري إما أفكارًا وسواسية وإما تصرفاتٍ قهرية تكرارية ومُلحّة، في حين يعاني بعض المرضى كليهما معًا.
هل يكون المصاب واعيًا لحالته؟
يعلم عديدٌ من المصابين باضطراب الوسواس القهري أنّ أفكارهم وعاداتهم ليست منطقية؛ إذ يتصرفونها ليس لأنهم يستمتعون بها، بل لأنهم لا يستطيعون تركها، وفي حال توقفهم عنها يتملّكهم الشعور بالسوء حتى البدء بها من جديد.
ما أنماط التفكير الوسواسي والتصرفات القهرية؟
قد تنطوي الأفكار الوسواسية والتصرفات القهرية على أنماط متنوعة ومختلفة، فيمكن أن تشمل الأفكار الوسواسية: الخوف من الجراثيم أو الاتّساخ، أو الخوف من الإصابة بالأذى أو إلحاق الأذى بالآخرين، أو الحاجة إلى ترتيب الأشياء بنظام معين.
وقد تتضمن العادات القهرية: غسيل اليدين عدة مرات متتابعة، أو التحقق المتكرر من وصد الأبواب وإطفاء الإنارة، أو الخوف من ملامسة مقابض الأبواب أو مصافحة الآخرين.. إلخ.
ما العلاقة بين الوسواس القهري والاكتئاب؟
ليس من المفاجئ ارتباط اضطراب الوسواس القهري عادةً مع الإصابة بالاكتئاب، ومن السهل أن نفهم كيف يمكن أن تتطوّرَ حالة الاكتئاب السريري لدى شخص ما عندما تتكون حياته اليومية من أفكار غير مرغوبة وإلحاحات تفرض سلوكياتٍ (طقوسًا) غير معتادة ومبالغ فيها، ولكنها خالية من المنطق.
والاكتئاب السريري هو أكثر من مجرَّد الشعور بالحزن أو الضجر بضعة أيام؛ إذ يشعر مريض الاكتئاب بالحزن على نحو مستمر أسابيع أو أشهر؛ مما قد يعيقه عن العمل والحياة الاجتماعية والعائلية.
ما أعراض الاكتئاب؟
تكون أعراض الاكتئاب معقَّدةً ومتفاوتةً على مدى واسع تبعًا لمستويات شدة الإصابة التي تتفاوت من خفيفة إلى شديدة.
وتتراوح الأعراض من الشعور الدائم بالحزن واليأس إلى فقدان الاهتمام بالأشياء التي اعتاد الشخص الاستمتاعَ بها وميله الشديد إلى البكاء.
وقد تكون الشدة المتوسطة من الاكتئاب هي الشعور الدائم بمزاج سيِّئ، في حين قد يخلق الاكتئاب الشديد الرغبةَ في الانتحار واعتقادَ الشخص أنّ الحياة لم تعد تستحق أن تُعاش أو أن يُعزِّزها.
وقد تظهر أعراض جسدية أيضًا؛ مثل الشعور بالتعب دائمًا والنوم المضطرب وفقدان الشهية أو الرغبة الجنسية وآلام وأوجاع متنوعة.
وتشير الدراسات إلى أن ما بين ربع المصابين باضطراب الوسواس القهري إلى نصفهم يملكون المعايير التشخيصية للإصابة بالاكتئاب الشديد.
وقد نصت إحدى الدراسات على أن معظم المصابين باضطراب الوسواس القهري والاكتئاب معًا يقولون إنه بدأت معاناتهم مع الوسواس القهري قبل ظهور أعراض الاكتئاب، ويقترحون أن الاكتئاب هو ردُّ فعل على الضيق والتأثير المدمِّر لاضطراب الوسواس القهري.
كذلك يمكن أن يبدأ اضطراب الوسواس القهري والاكتئاب في الوقت نفسه أو يبدأ الاكتئاب قبل اضطراب الوسواس القهري، ولكن؛ حدوث ذلك أقل شيوعًا.
وقد تعيق الإصابة بالاكتئاب الشديد تأثيرَ العلاج الأكثر فعالية لاضطراب الوسواس القهري، وهو العلاج السلوكي المعرفي باستخدام التعرض ومنع الاستجابة (cognitive behavioral therapy using exposure and response prevention).
ما العلاج بالتعرُّض ومنع الاستجابة؟
يشمل العلاج بالتعرض المواجهةَ تدريجيًّا للحالات والأفكار التي تثير الوساوس، في حين يعني منع الاستجابة الامتناعَ عن الطقوس القهرية المقابلة، فعلى سبيل المثال؛ إذا كان لديك مخاوف من التلوث وطقوس قهرية لغسل اليدين؛ قد يساعدك المعالج على ممارسة لمس الأشياء الملوثة كحذاء، ومن ثم يساعدك على مقاومة غسل يديك إلى أن ينحسر مستوى القلق لديك من تلقاء نفسه.
وعمومًا؛ لا يُبلي المصابون بالوسواس القهري المترافق مع اكتئاب شديد بلاءً جيّدًا في هذا العلاج، مقارنة بمرضى الوسواس القهري الأقل اكتئابًا أو غير المكتئبين.
كيف يمكن أن يعيق الاكتئاب علاجَ الوسواس القهري بالتعرض ومنع الاستجابة؟
يوجد بضع تفسيرات، تنص إحداها على أن مريض الاكتئاب الشديد يواجه صعوبةً في الالتزام بالعلاج الذي يشتمل على المواجهة كعلاج التعرض ومنع الاستجابة لأن مريض الاكتئاب يعاني عمومًا صعوبة في الانخراط في أي عمل يتطلب كثيرًا من الطاقة والعمل الجاد؛ إذ يحوّله الاكتئاب إلى شخص كسول.
كذلك يجعل الاكتئاب المريضَ يشعر بالسوء حيال نفسه والمستقبل، ولذا؛ قد يشعر المريض بأن المحاولة لتخطي اضطراب الوسواس القهري ليست ذات أهمية.
ويمكن أن يسبِّب الاكتئاب شعورَ المريض بقلق شديد؛ إذ إن الخمود الطبيعي للقلق والضيق تدريجيًّا -الذي يحدث عادةً عند تطبيق العلاج بالتعرض- قد لا يحدث عند المريض، ومن ثم لا يتعلم أنّ القلق الوسواسي يتناقص من تلقاء نفسه في أثناء علاج التعرض.
ويُعدّ استخدام الأدوية المضادة للاكتئاب بالتزامن مع علاج المرضى بالتعرض من أكثر المعالجات شهرة، ومن الممكن أن يبدو هذا منطقيًّا؛ إذ تكون مثبطات إعادة التقاط السيروتونين الانتقائية (selective serotonin reuptake inhibitors) مفيدةً لكل من الاكتئاب والوسواس القهري، علمًا أنها تُستخدَم تحت إشراف طبي.
وتوجد دراسات قليلة تتحرّى عما إذا كانت إضافة مضادات الاكتئاب إلى العلاج بالتعرض تُسهّل تحسُّن أعراض الوسواس القهري لدى مريض الاكتئاب، ولكن؛ لم تكن نتائج هذه الدراسات مشجعة كثيرًا، فعلى الرغم من أن مضادات الاكتئاب قد تخفف أعراض الاكتئاب؛ ولكنها قد تضيف تأثيرات غير مرغوبة إلى علاج أعراض الوسواس القهري بالتعرض.
فضلًا عن ذلك، توجد عدّة أبحاث موّلتها مؤسسة الوسواس القهري (Obsessive-Compulsive Foundation) لتطوير صيغة من العلاج النفسي هي "العلاج السلوكي المعرفي" واختبارها، ويمكن استخدام هذا العلاج مع مرضى الوسواس القهري المترافق مع الاكتئاب الشديد من أجل مساعدة المصابين على أن يصبحوا قادرين على الاستفادة من العلاج بالتعرض ومنع الاستجابة.
ويتضمن هذا العلاج عناصر من العلاج المعرفي والعلاج السلوكي للاكتئاب مترافقًا مع علاج الوسواس القهري بالتعرض ومنع الاستجابة، وعلى وجه التحديد؛ يُعلَّم المرضى في أثناء الجلسات الأولى من العلاج طرائق جديدة للتفكير والتصرف تساعدهم على التغلب على بعض مشاعر الاكتئاب؛ مما يزيد الدافعَ لديهم للانخراط بنجاح في علاج الوسواس القهري بالتعرض ومنع الاستجابة.
وعلى سبيل المثال؛ قد يمتلك المرضى في حالات الاكتئاب الشديد معتقداتٍ سلبية للغاية ومتشائمة عن أنفسهم (أنا فاشل ولا أستحق أن أتحسّن) وعن العالم (لا أحد يحبني، العالم مكان فظيع) وعن المستقبل (أشعر باليأس، أنا لن أتحسن أبدًا، ليس هناك أي أمل بالنسبة إليّ).
ويساعد العلاج المعرفي للاكتئاب المرضى على تحدي هذه المعتقدات وتغيير طريقة التفكير من أجل الوصول إلى معتقدات أكثر واقعية وليس بالضرورة أن تكون إيجابية فقط، فعلى سبيل المثال؛ تُظهَر نقاط القوة والضعف بدلًا من أن يعتقد المريض عن نفسه أنه فاشل كليًّا؛ إذ يوجِّه العلاج المعرفي اعتقاد المريض إلى ما يأتي: "يمتلك كل شخص نقاط ضعف ونقاط قوة، وإن اضطراب الوسواس القهري هو أحد مشكلاتي، ولكن؛ لا يعني هذا أني فاشل كليًّا فهناك بعض الأشياء التي أستطيع تأديتها جيّدًا".
وانطلاقًا من ذلك، وُجِد أن عدة أسابيع من مواجهة أنماط التفكير السلبية والمشاركة في أنشطة ممتعة تساعد العديد من مرضى الوسواس القهري المترافق مع الاكتئاب على الشعور بثقة أكبر والاستعداد لمواجهة الوساوس والتصرفات القهرية.
وبعد هذه المرحلة؛ تُقدَّم تقنيات العلاج بالتعرض ومنع الاستجابة التي تُمارَس على نحو متكرر إلى نهاية العلاج (تبلغ نحو 16 إلى 20 جلسة)، وقد أظهرت نتائج مشجعة؛ إذ حقق قرابة ثلثي المصابين انخفاضًا يزيد على 50٪ في أعراض الوسواس القهري.
وعلى الرغم من نجاح هذا العلاج في مساعدة عديد من المرضى الذين ربما لم يستفيدوا من طريقة أخرى؛ ولكنه لم يساعد المرضى جميعهم بالتأكيد، علمًا أنه في بعض الحالات يضطر مرضى الوسواس القهري المترافق مع الاكتئاب إلى الإقامة في المشفى أو تناول الأدوية المضادة للاكتئاب كي يحققوا استقرارًا في أعراض الاكتئاب قبل أن يصبحوا قادرين على البدء بعلاج الوسواس القهري.
كذلك على الرغم من التعقيد الذي يشعر به مريض الوسواس القهري تجاه نفسه وتجاه الاضطراب وما تؤول إليه حياته تحت وطأته؛ يظلُّ هناك كثيرٌ من الأمل الواعد بتخطي الاضطراب والتغلب عليه باتباع العلاج الصحيح المناسب.
وأخيرًا؛ إن كنت تعاني اضطراب الوسواس القهري فلا تتردد في طلب المساعدة من مختص، ولا تدع هذا الاضطراب يرسم لك حدودًا في حياتك؛ فأنت تستطيع أن ترسم له حدًّا قاطعًا.
المصادر:
1- هنا
2- هنا
3- هنا