الفيزياء وتأثيرها في دماغك
البيولوجيا والتطوّر >>>> علم الأعصاب
قبل أن تبدأ الرحلة لعلك تتسائل لماذا الفيزياء؟ ما المميز بها؟ حسنًا؛ دعني أخبرك بأن الفيزياء مرشح جيد لفهم عملية التعلم لسببين: الأول؛ لأنها تتعامل مع الأشياء التي نشاهدها في الحياة من حولنا ونمتلك خبرة مباشرة معها مما يجعل التعلم المدرسي والتعلم من بيئتنا المحيطة متناسقين جنبًا إلى جنب. والثاني؛ لأنها مبنية على القوانين المجردة؛ لذا هنالك دائمًا هذه القيم المطلقة التي تحكم كيف تعمل الأشياء من حولنا.
Image: (Courtesy of Carnegie Mellon University)
الأنماط الفيزيائية في عقلك
إن كل أفعالنا وأقوالنا وما نفكر فيه ما هو إلا نتاج لنشاط العديد من المناطق والمراكز في الدماغ، وما التعلم إلا عملية تحفز نشاط العديد من هذه المناطق، ومن أجل فحص هذه الأنماط الدماغية ومعرفتها استخدم باحثون تقنية الرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) على مجموعة من الأشخاص قبل تعلمهم للعديد من الأفكار والمفاهيم وفي أثنائه وبعده، ولقد أدهشهم ذلك النمط العام لجميع البشر؛ إذ ينتقل النشاط من المراكز الخلفية بالدماغ إلى الأمامية منه، ومع مرور الوقت والفهم الكامل للفكرة؛ أي اكتمال التعلم، ويستقر النشاط في القشرة الأمامية التي تُعدُّ بمنزلة الشبكة التنفيذية للدماغ؛ إذ تُحدِث أنماطًا معقدة أكثر للتفكير، ولم يكن ذلك بالمفاجئ فكثيرًا ما يتكرر هذا النمط عند تعلم أي شيء جديد. بل المفاجئ والساحر عن الفيزياء أن التفكير في المفاهيم الفيزيائية يحث على تكوين أنماط نشاط مميزة بالدماغ، وعلى الرغم من أننا نتعلم في فصول دراسية مختلفة ومع أساتذة مختلفين وبمعدلات متفرقة؛ فهذه الأنماط الدماغية التي تنشط لمحاولة استيعاب مفهوم ما تكون هي نفسها لدى مختلف الأشخاص. واستغلالا لهذه النقطة تمكَّن الباحثون من تطوير برامج حاسوبية للتعلم الآلي تتنبأ بالمفهوم الفيزيائي الذي يفكر فيه الشخص بعد أن تُحلل في طريقها أنماطًا مختلفة لنشاط الدماغ.
الفيزياء وتطور العقل
إضافةً إلى ذلك؛ فإن هذه الأنماط الدماغية الجديدة ترتبط بالقدرات العصبية التقليدية؛ فعلى سبيل المثال الأنماط المصاحبة لتعلم مفاهيم؛ كالتردد أو الطول الموجي تحدث في المناطق نفسها التي تنشط عندما نستمع إلى الموسيقى أو النغمات الإيقاعية، وذلك على الأرجح لكون هذه الأشياء تتكرر دوريًّا مما يُحفِّز نشاطًا عقليًّا متشابهًا؛ إضافة إلى ذلك؛ فإنه عندما يفكر الطلاب في المعادلات الرياضية مثلًا؛ فإن المناطق التي تنشط من عقولهم هي نفسها التي تعالج الجمل والكلام؛ مما يشير أنه وبتطور المفهومات يُعاد توظيف الأنماط العصبية التقليدية - كمعالجة إيقاع الموسيقى وتركيب الجمل - نحو فهم العلوم المجردة ذات المستوى المرتفع، ويُعزى إلى مثل هذه الأنماط تطور أدمغتنا لفهم العديد من الأفكار والنظريات الفيزيائية واستيعابها؛ كالنسبية العامة لأينشتاين التي لم يكن أسلافنا على بيِّنة منها.
الفيزياء والخيال
وفي دراسة أخرى؛ أراد مجموعة من الباحثين تَعرُّف المناطق التي تنشط قبل تعلم دورات فيزيائية وبعهدها يُستَعان فيها بنماذج ومجسمات لهدف تبسيط المعلومة، وتُعدُّ تلك من أحد طرائق التدريس التي تُحفِّز الطلاب للتفاعل تفاعلًا أفضل في أثناء التعلم.
وكانت المرحلة الأولى هي تسجيل نشاط الدماغ قبل البدء بتعلم الفيزياء؛ إذ طُلب من المتطوعين بالدراسة أن يخضعوا للـfMRI في أثناء إجابتهم عن مجموعة من الأسئلة في اختبار يقيم مدى إلمامهم ومعرفتهم بالمفهومات الفيزيائية التي تُدرَّس عادة في المراحل الجامعية الأولى، وأظهرت عمليات الفحص أنه وكالمتوقع قد زاد نشاط مناطق بالقشرة الأمامية والمرتبطة بالانتباه والذاكرة العاملة وحل المشكلات، وكان الجديد هو ازدياد نشاط منطقة أخرى هي المسؤولة عن نشوء المحاكاة العقلية مما يُرجِّح وبشدة أن التفكير بالمشكلات الفيزيائية عملية إبداعية تتطلب القدرة على التخيل عكس ما قد يظنه بعض الناس.
أما المرحلة الثانية؛ فهي تسجيل النشاط بعد تعلم الفيزياء ومقارنته بمَا قبله؛ فبدأ المتطوعون بالتعلم وبعد انتهاء الدورة خضعوا مرة أخرى للـfMRI في أثناء تأديتهم الاختبار نفسه، وبمقارنة عمليات المسح قبله وبعده؛ كان الاختلاف هو ازدياد النشاط زيادة ملحوظة في منطقة تُدعَى بالقشرة الحزامية الخلفية (the posterior cingulate cortex) ، وتُعدُّ هذه المنطقة هي المسؤولة عن الذاكرة العرضية والتفكير المرجعي الذاتي؛ فاستنتج الباحثون أن التغيرات في أنماط النشاط الدماغية ترتبط بالتغيرات السلوكية والمعقدة ارتباطًا كبيرًا للكيفية التي أصبح يفكر بها الطلاب في أثناء الإجابة على الأسئلة الفيزيائية؛ أي ارتباط الأنماط بعد مرحلة التعلم نسبيًّا بما قبلها.
وتكمن الأهمية الكبرى لهذه الدراسات وغيرها فيما يترتب عليها من تغيير في منظورنا للكيفية التي نقيس بها المعرفة، وطريقتنا لإيصال مفهوم ما وشرحه؛ لنتطور ونصبح أكثر تخصصية في تعاملنا مع كل طالب على حدٍّ سواء بمَا يتلائم مع مخرجات التعلم المرجوة في النهاية؛ فنحن على علم الآن أنه وبتحليل بعض المفهومات وربطها بظواهر نشاهدها في حياتنا سيسهل ذلك كثيرًا على الدماغ لاستيعابها، ويمكننا معالجة قصور التعلم عن طريق تتبع أنماط النشاط الدماغية وتحديد النمط غير الصحيح وتصويبه أيضًا، وبالطبع ابتكار منهجيات جديدة لاختبار مدى استيعاب الطلاب للمفهومات المختلفة.
في النهاية؛ على ما يبدو أن هذا العلم الذي أرهقنا كثيرًا في مراحلنا الدراسية المختلفة ظنًّا منا أنه "لا يعمل" يُعدُّ من الأسباب المهمة لتطور عقولنا وذكائنا وتحسُّن قدرتنا على تفسير الظواهر من حولنا.
المصادر:
1- هنا
2- هنا
3- هنا