مراجعة رواية "قصة موت معلن" لوحة أدبية تُوثَق جريمة في ريف كولومبيا
كتاب >>>> روايات ومقالات
تُحكى أحداث الجريمة عن طريق سكَّان القرية على نحو متقطِّع، وكل منهم يصبغ تلك الجريمة بآرائه الشخصية التي يظهر من خلالها خفايا سينتياغو وتاريخه وشوق والدته التي اعتادت أن تفسِّر أحلامه الليليّة، ومع أنَّ آخر ما فسَّرته "جميع الأحلام التي فيها عصافير هي أحلام خير" إلا أنها أخطأت وعاد رجلُ حياتها -كما كانت تُسميه- إليها قتيلًا، وتدور الآراء الأُخرى عن تفسير الجريمة والتساؤل كم هي مُبرَّرةٌ وكم أنَّ المجرمين يعتقدون بجوهرهم أن ما يفعلونه حقّ، وينقادون نحو عاداتهم التي نزعت الرحمة من قلوبهم وحولتهم لحملة سكاكينٍ يبحثون عن المُتهم ويبشِّرون بإرادة قتله.
ومن زاوية مظلمة تكشفُ الخادمة فيكتوريا غوثمان وابنتها ديفينا في روايتها البعضَ من مخالب الشيطان في نفس سينتياغو، مخالبُ متحرشٍ متسلّطٍ شديدِ الخبث، وتشكوان حالها إلى بعضهما متأمِّلتان أن تطالَ تهديداتُ القتل التي قالها التوءمان بيدرو وبابلو فيكاريو رقبة حاكم المنزل الذي تعملان تحت رحمته، وفي عمق كلٍّ منهما، وخاصةً الأم، رغبة لا تُخالف رغبة المجرمين ولكنَّ الخوفَ يُقصيها.
تبدأ الأحداث مع ظهور شخصيةٌ غامضة في القرية وتكثرُ حولها التساؤلات والحكايات، ويصعبُ وصفها ما بين الذكاء والخبث، وربما أصحُّ القول: خبثٌ بطريقةٍ ذكيّة. وبين عجرفة المُسمَّى بياردور سان رومان وغرابته تقع أختُ التوءمين أنخيلا فيكاريو في شباكه فتقدَّم طالبًا الزواج منها، وقد كانت الابنة الصغيرة لعائلةٍ محدودة الموارد، فوالدها كان صائغًا فقيرًا، والأمُّ تعملُ في الخياطة وصنع الزهور الاصطناعية، ومع أنَّ الأم تحملُ كثيرًا من القسوة لكنَّ مظهرها الوديع يُخفي فظاظة طبعها فتبدو راهبةً.
وتتوجّه الأفكار في الرواية نحو محورين رئيسين؛ سلطة الثروة التي يمتلكها سان رومان، وهي التي تُتيح له شراء أحلام الفقراء وذكرياتهم، وتدفعهُ لإغواء العوائل لتزويجه بناتها. والمحور الثاني هو مفهوم الشرف وخطورة انتهاكه في المجتمعات المحافظة على قيمة عذرية المرأة التي تشهدُ عليها -حسب اعتقادهم وتقاليدهم- الملاءة البيضاء التي تعرض على الملأ بعد أن تمرَّ ليلة الدخلة التي تقطع الشك باليقين، ويُمثِّل هذا المحور أنخيلا فيكاريو المُرتعبة مما قد يحدث إن اكتشف أخوتها تاريخها القريب، تاريخٌ يجعلُ من الموت مُعلنًا يصيحُ به القتلة، حتى إنهم في أحدِ حواراتهم مع الكاهنِ في الكنيسة قالوا:
"لقد قتلناه ونحن بكامل وعينا، ولكننا بريئان أمام الله وأمام الناس، قد كانت جريمة شرف"
وبين التبرير والتفاخر والحكايات عن ألسنة سكان القرية تتوضَّح تفاصيلُ جريمة قتلٍ مُعلن؛ مما يجعل القارئ يرى صورة واضحة عن تداعيات الطهارة في المجتمع المحافظ، وما من الموت مُعلنًا ومكرَّسًا لتلميع مفهوم الجريمة من القضاءِ، وما يستندون إليه من عادات وتقاليد. وكذلك تُنقَّح عقلية المجرمين كما تصفهما كلوتيلدي أرمينتا، وهي تعرفهما معرفة جيدة بأنهما في الباطن لا يبحثان عمن يقتلانه بل عمن يردعهما عن ذلك، ولكن ما غُرز بهما منذ الصغر عن مفهوم الطهارة قدّ يجرُّهما إلى ما لا يريدان.
تقول كلوتيلدي وهي تراقب تحركات الأخوين الثملة بعد زجاجة الخمر الثالثة:
"في ذلك اليوم أدركت كم نحن معشر النساء وحيدات في العالم!"
في ساعات قليلة جرت بها الأحداث؛ نرصد طبائع أهل القرية العالمون بحدوث الفاجعة قبل وقوعها؛ هناك من تلذَّذ بها، وهناك من قابلها باللامبالاة أو التحرِّك لتحذير سينتياغو، وهناك من حاول منعها. وهكذا يقصُّ علينا ماركينز كثيرًا من الأدب الساحر ليتوج الواقع الذي حدث عام 1951 في ريف كولومبيا حيث مسقط رأسه. بطابع الإثارة المُعلنة قبل حدوثها، وليس هذا بصعبٍ على من أبدعَ في ملحمةٍ سحريةٍ نالت جائزة نوبل للأداب وترجمت إلى 32 لغة، ملحمة (مئة عامٍ من العزلة) هنا أن يشدَّ القارئ نحو التعايش للحظات التي مرَّ بها أهل القرية قبل الجريمة، وعانى منهم سينتياغو نصَّار وهو يزحفُ على الأرض ويجرُّ أحشاءه خلفه.
معلومات الكتاب:
الكتاب: قصة موت معلن.
الكاتب: غابريل غارسيا ماركينز.
دار النشر: دار المدى للثقافة والنشر، دمشق.
تاريخ النشر: طـ1 1981، طـ2 1999.
عدد الصفحات: 116 صفحة.