ماذا يستطيع علم الإحصاء أن يخبرنا عن ذواتنا؟!
الرياضيات >>>> الرياضيات
قصة: في عام 1998م تلقى (هارولد إيدليستون – Harold Eddleston)، وهو عجوز يبلغ من العمر 77 عامًا من مانشستر ببريطانيا، خبر إصابته بالسرطان. كما تلقى في فبراير 1998م أيضًا، صدمة غير متوقعة وهي وفاة زوجته الحبيبة جراء أزمة قلبية. كل هذا دفع ابنه (هارولد) للاتصال بطبيب العائلة وهو طبيب يتمتع بسمعة طيبة ويدعى (هارولد شيبمان – Harold Shipman). وجاء الطبيب (شيبمان) وتحدث للعجوز (إيدليستون) برفق. وبعد الزيارة قال بطريقة من يحذر مستمعه: "إن الوالد لن يرى عيد القيامة المقبل". وبالفعل لم يمر سوى بضعة أيام وتوفى (إيدليستون). لاحقًا في عام 1998م اُتهم الطبيب (شيبمان) بقتل (إيدليستون).
لقد أثار موت (إيدليستون) و214 مريضًا آخرين، كلهم من كبار السن وتحت الرعاية الطبية لـ(شيبمان)، الشكوك عن نزاهة (شيبمان) الطبية. وقد وجد لاحقًا أنه كان يحقن مرضاه بجرعات مميتة من مخدر الأفيون، مما أدى إلى الوفاة السريعة. وبعد 6 أشهر (أي في سبتمبر 1998م) ألقت السلطات البريطانية القبض على الطبيب (شيبمان) موجهة له تهمة قتل المرضى. وقد جعلت هذه الحوادث من (شيبمان) أكثر قاتل متسلسل شهرة على مر التاريخ. لقد مارس (شيبمان) القتل على مدى 23 عامًا.
وبعد نهاية القصة، يبرز سؤال مثير: هل كان يمكن التنبؤ بأن (شيبمان) قاتل بالنظر إلى معدل وفيات مرضاه؟
لقد شغل هذا السؤال الرأي العام البريطاني. وقد كُلف علماء إحصاء، للإجابة عن هذا السؤال. ومن ضمن علماء الإحصاء كان الدكتور (ديفيد شبيجلهولتر – David Spiegelhalter) – عالم الإحصاء الحيوية ومؤلف الكتاب المهم "فن الإحصاء" – ممن يحاولون البحث عن إجابة للسؤال.
رغم البساطة الظاهرية للتساؤل؛ فإن استخدام الطريقة الإحصائية، المستخدمة مع النرد، للتنبؤ بالإجابة لا تصلح. فهو ليس مجرد سؤال يجاوب عنه بـ "نعم/ لا". ولكي يشرح (شبيجلهولتر) وجهة نظره اعتمد على الأحداث الإحصائية الآتية وقدم في النهاية رؤيته الشخصية.
حدث إحصائي #1: هل يمكن التنبؤ بالجريمة قبل حدوثها؟
في عام 1825 م، جمعت وزارة العدل في فرنسا بيانات كل الجرائم التي حدثت في القطر الفرنسي. كل عملية قبض على مجرم، كل إدانة نهائية، في كل مقاطعة، وذلك لتحليل هذه البيانات. وكانت هذه أول عملية جمع بيانات (في العالم). وحاليًّا تسمى هذه الطريقة بالبيانات الضخمة Big Data. وكان الهدف هو محاولة لتنظيم شتات البيانات ومن ثم التنبؤ بالسلوك البشري العشوائي. وفي الأعوام التي تلت 1830م، استخلص عالم الإحصائيات البلجيكي (أدولف كويتليت – Adolphe Quetelet) نتيجة مذهلة، مفادها أن عدد الجرائم ثابت. بغض النظر عن السنة، والأحكام القضائية؛ فإن عدد جرائم القتل والاغتصاب والسرقة لا يتغير فى مجمله. حسب (كويتليت)، نستطيع التنبؤ بعدد الجرائم التي ستحدث كل سنة قبل حدوثها، ولكن لا نعلم من سيؤديها على وجه التحديد.
ومن هنا استخلص (شبيجلهولتر) أن كل شخص يستيقظ صباحًا، يحمل يومه احتمالات متعددة، تتراوح بين التعرض للقتل، والتسبب في حادث سير، أو حتى التقدم بعرض زواج.
حدث إحصائي #2: هل يمكن التنبؤ بالمستقبل؟
في عام 1965م، قرر المحامي الفرنسي (أندريه فرانسوا رافرى - André-François Raffray) والبالغ من العمر 47 عامًا، التقدم لشراء شقة من أرملة تبلغ من العمر 90 عامًا، عن طريق دفع مبلغ شهري ثابت حتى يوم وفاتها. كان هذا اعتمادًا على أن متوسط أعمار السيدات في فرنسا وقتها 74.5 عامًا. مما يعني أنها قد تجاوزت الحد المتوسط من العمر وأنها قريبة من الموت (على الأرجح بعد 10 سنوات كحد أقصى). ولسوء حظ (أندريه)، أن هذه السيدة (جين كالمنت) قد عاشت لمدة 32 عامًا بعد الاتفاق. بينما توفى (أندريه) بعد 30 سنة من الاتفاق. وبهذا قد اشترى شقة لم يسكن فيها قط.
ومن هنا نستخلص: من الخطر اتخاذ قرارات بشأن سلوك فردي، اعتمادًا على الخصائص الجماعية للأفراد.
حدث إحصائي #3: الاستاتين والأسبرين، هل يقيان من الأمراض؟
يعتمد الكثير من الناس على أخذ جرعات يومية من الاستاتين (المادة الفعالة في أدوية الكوليسترول) للوقاية من خطر السكتة القلبية. كما يعتمد الكثير من العجائز على الأسبرين لتفادي تكوّن جلطات الدم. لكن الدراسات الحديثة أثبتت أن هذه الأدوية لا تضمن النجاة من مخاطر السكتة القلبية على نحو يقيني قاطع. فأنت لا تستطيع إثبات أن كان الدواء قد منع عنك السكتة القلبية أم أنك لم تكن معرضًا لها في المقام الأول. فمن بين 1000 شخص يتناولون الاستاتين يومين لمدة خمس سنوات، فالدراسات أثبتت أن 18 شخصًا منهم سيساعدهم الدواء على تفادي السكتة القلبية. في حين أن دراسة مماثلة أجريت على 22,000 شخص لمدة خمس سنوات، أثبتت أن الأسبرين يساعد نسبة قدرها 0.001% (واحد في الألف في المئة) على تفادي جلطات الدم.
ومن هنا استخلص (شبيجلهولتر): في المتوسط سيساعدني الدواء (مثل مترجم المقال) على تفادي مخاطر السكتة القلبية.
الخاتمة: بالنظر إلى ما سبق فلا يمكن للطرائق الإحصائية البسيطة أن تقدم إجابة مبسطة على قضية (شيبمان) المعقدة. إذ إن استخدام التحليل التقليدي للارتباط الإحصائي سيظلم العديد من الأطباء الأبرياء في أنحاء بريطانيا. وقد اقترح (شبيجلهولتر) إجراء تحليل إحصائي أكثر تعقيدًا. وهو يسمى: المخاطر المعدلة للمجموع التراكمي Risk-Adjusted Cumulative Sum. وهي طريقة بيانية هدفها بيان إذا كان هناك تراكم كافٍ للبيانات المسجلة يصلح للحكم إذا كان التغيير الحادث عشوائيًّا أم مقصودًا. وبإجراء مثل هذا التحليل؛ فإنه يتبين إذا كانت الوفاة الحادثة هي مجرد سوء حظ أم وراءها أمر مريب.
وبتطبيق هذه التقنية الإحصائية المعقدة على الممارسين العامين في بريطانيا؛ فقد سجل العديد منهم معدل وفيات أعلى من (شيبمان). وقد كان رأى (شبيجلهولتر) أن (شيبمان) هو مجرد طبيب سيئ الحظ تعامل مع مرضى مسنين.
ويختتم (شبيجلهولتر) تحليله: "إن علم الإحصاء يستطيع إيجاد الشذوذ في البيانات ولكنه، بالرغم من ذلك، لا يستطيع إيجاد أسباب حدوث هذا الشذوذ. ومن ثم نحتاج دائمًا إلى تطبيق علم الإحصاء بحرص شديد حتى لا نلقي الاتهامات جزافًا".
بينما ترى كاتبة المقال (هنا فراى – Hannah Fry): بالرغم من تطور علم الإحصاء ومحدداته، فهو يؤدي دورًا فعالًا فى العلوم الاجتماعية. وفي قضية (شيبمان) إذا تم التحليل الإحصائي السابق لكان من الممكن إنقاذ حياة العديد من المرضى. الإحصاء لا تستطيع محو الشكوك في عالم مليء بعدم اليقين، ولكن ستظل الإحصاء دائمًا البداية نحو المعرفة واليقين.
المصادر:
1- هنا
2- David Spiegelhalter, Nick Best, “Shipman’s Statistical Legacy”, Royal Statistical Society, pp. 10-12, March 2004.
3- Stefan H. Steiner, Richard J. Cook, “Monitoring Surgical Performance using Risk-Adjusted Cumulative Sum Charts”, Biostatistics, Vol. 1, Issue 4, pp. 441-452, 2000.