تأثير ظاهرة حموضة المحيطات في الكائنات البحرية
الطبيعة والعلوم البيئية >>>> علم البيئة
تخزّن المحيطات قرابة ثلث إلى نصف نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون (CO2) الموجود في الغلاف الجوي، وهو الذي تزداد نسبتُه طرداً مع زيادة الأنشطة البشرية، فتنجم تفاعلات كيميائيّة تقلّل من درجة حموضة (pH) مياه البحر، وتركيز شوارد الكربونات، وحالات الإشباع بكربونات الكالسيوم المهمة حيوياً، وزيادة تركيز شوارد الهيدروجين الحمضية [+H]، وهو ما يطلق عليه Ocean Acidification (حموضة المحيطات) (1,2).
فمنذ بداية الثورة الصناعية؛ انخفض الأسُّ الهيدروجيني (pH) لمياه المحيطات السطحية بمقدار 0.1 بزيادة في الحموضة بنسبة 26٪ منذ قرابة عام 1850م (2)، وهو تغيُّر أسرع بمعدّل 10 مرات من أيّ وقتٍ في خلال الـ 55 مليون سنة الماضية. ويبلغ متوسط درجة حموضة مياه المحيطات الحالي 8.1 مع الإشارة إلى أن مقياس الأسّ الهيدروجيني هو مقياس لوغاريتمي يُعبَّر عنه بالعلاقة الرياضيّة:
Image: SYR-RES
لذا فإن التغيُّر بنقطة واحدة على هذا المقياس يقابل تغييراً في تركيز شوارد الهيدروجين بما يُقارب العشرة أضعاف (1,4)، ووفقاً للمقياس؛ يعدّ الوسط حمضياً عندما تكون قيمة الـ pH أقل من 7، في حين يعدّ قلوياً أو أساسيّاً في حال كانت قيمة الـ pH أعلى من 7 (1).
تعدّ كربونات الكالسيوم اللبنات الأساسية لهياكل وقواقع العديد من الكائنات البحرية، وتسبِّب حموضة المحيطات المستمرة في حرمان أجزاء كثيرة من المحيط من هذه المعادن، فتصبح غير مشبعة بها؛ مما قد يؤثِّر سلباً في قدرة بعض كائناتِها الحيّة على إنتاج قواقعها وحمايتها وبقائها على قيد الحياة (2)، إذ تصبح قواقعها عُرضةً للذوبان. ولا يزال مدى تأثر الكائنات الحية المُرسِّبة لكربونات الكالسيوم في هياكلها غير واضح نوعاً ما بفعل ظاهرة الحموضة، في ظلّ إشارة الأدلّة المحدودة إلى حساسيّة بعض الكائنات الحية أكثر من غيرها (1). ثم إن آثار حموضة المحيطات ليست متجانسةً عند جميع الأنواع، إذ تستفيد بعض الطحالب والأعشاب البحرية من ارتفاع تركيز ثاني أكسيد الكربون في المحيطات، نظراً إلى إمكانيّة زيادة معدلات تمثيلها الضوئي ونموها. في حين تضرُّ البيئة الأكثر حمضية الأنواعَ البحرية الأخرى مثل الرخويات والشعاب المرجانية وبعض أنواع العوالق (1,2). إضافة إلى الفشل شبه الكامل - في السنوات الأخيرة - في تنمية المحار في كل من مرافق تربية الأحياء المائية والنظم البيئية الطبيعية على الساحل الغربي الأمريكي (2). فقد تُعزى حالات فشل تنمية يرقات المحار إلى ظاهرة الحموضة بوصفها عاملاً مُحتمَلاً في الأزمة الحالية لهذه الزراعة المائيّة (2,3) التي تكلّف 100 مليون دولار سنوياً (2).
ثم إنّ معظم الأنواع تكون أكثر عرضةً للخطر في مراحل حياتها المبكرة، قد تجدُ الأسماك الصغيرة - على سبيل المثال - صعوبةً في تحديد مكانٍ مناسب لعيشها.
وتشير الأبحاث إلى أنّ حموضة المحيطات قد تكون محركاً لتغيّرات كبيرة في النظم البيئية للمحيطات، مثل انخفاض مستويات الأكسجين في المحيط التي تؤثر في الحياة البحرية في بعض المناطق (1).
ونظراً إلى تعقيد الشبكات الغذائية في المحيط؛ فإن أي زيادة أو نقصان في وفرة أحد الأنواع الحية يمكن أن يكون لها تأثير مضاعف في الأنواع الأخرى (3)، فإذا أخذنا بعين الحسبان نظاماً بيئياً معروفاً كالشعاب المرجانية، فمع انخفاض قدرتها على تكوينِ هياكلها في ظل استمرار حموضة المحيطات الذي يمكن أن يضرّ بتكاثرها أولاً، وبفقدانِ بعض أنواع الطحالب المتعايشة معها مسبِّبةً ابيضاضها ثانياً، وباستيطان أنواع الكائنات الحية المختلفة ويرقاتها التي تتّخذ منها موئلاً لها ثالثاً؛ تشير نتائج البحث أنه ربما يؤثر ذلك فيما يقارب مليون نوعٍ حيٍّ يعتمد على موائل الشعاب المرجانية (2)، وهي التي تستضيف مجموعة وفيرة ومتنوعة من الحياة البحرية، إذ تشبه في هياكلها الحية الصلبة الغابة على اليابسة، مما يجعلها موطناً معقداً لنحو 25% من المخلوقات البحرية بما توفره لها من الموئل والغذاء، متضمنة الإسفنج والمحار وسرطان البحر ونجم البحر وقنافذ البحر والعديد من أنواع الأسماك (3).
وعليه فإن تأثير زيادة حموضة المحيط في نوع واحد من الكائنات الحية يمكن أن يكون له عواقب وخيمة تراكمية على النظام البيئي بأكمله، وصولاً إلى الإنسان، إذ يعتمد قرابة نصف مليار شخص عالمياً على النظم البيئية للشعاب المرجانية في الغذاء وحماية السواحل والدخل المعتمِد على السياحة ومصائد الأسماك (3)، عدا عن انخفاض قدرة المحيطات على تخزين غاز ثاني أكسيد الكربون مع زيادة حموضتها، وبذلك انخفاض فعاليتها في الحدّ من تغير المناخ (1). وتشير التقديرات المستقبلية لمستويات غاز ثاني أكسيد الكربون - استناداً إلى سيناريوهات العمل المعتادة للانبعاثات - إلى أنه بحلول نهاية القرن الحادي والعشرين، يمكن أن يكون لماء المحيطات السطحي مستويات حموضة أعلى بنسبة 150 % تقريباً، وهذا ما لم تشهده المحيطات من أكثر من 20 مليون سنة (2).
ولن تكون حموضة المحيطات متجانسةً في جميع أنحاء العالم، فمن المتوقع أن تزداد حموضة البحار القطبية والمناطق التي توجد غالباً على طول السواحل الغربية للقارات، أسرع من المناطق المعتدلة أو الاستوائية، وهذا ما حدث عند تآكل بعض أنواع القواقع في ولاية كاليفورنيا نتيجة زيادة حمضية الماء (1).
وعلى الرغم من قدرة الكائن الواحد على التكيف مع تقلبات مستويات الأسّ الهيدروجيني المختلفة في حياته، لكنّ وتيرة التغيّر السريع لظاهرة الحموضة تؤثر في مدى قدرة الكائنات التي ترسِّب كربونات الكالسيوم في قواقعها على التكيف (1).
وفي حين يبدو أن الحدّ من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية هو الحل النهائي لحموضة المحيطات، لكنّ اتخاذ بعض القرارات يمكن أن يساعد على الاستعداد للتأثيرات الضارة لها، فعلى المستوى المحليّ؛ يمكن تحسين نوعية مياه الجريان السطحي وتطوير ممارسات الإدارة المستدامة لمصائد الأسماك للحدّ من الإفراط في الصيد، وتنفيذ تقنيات جديدة كتطوير أنظمة تنبؤ جديدة في الاستزراع المائي لمراعاة التقلبات الموسمية التي قد تؤدي إلى انخفاض حموضة الماء السطحية للمحيط وتتسبب في نفوق المحار، ويمكن تحقيق الإدارة المستدامة للموائل، إضافةً إلى إنشاء المناطق البحرية المحمية وصيانتها (1).
قد يبدو من الصعب حالياً التنبّؤ بدقة بكيفية ظهور آثار حموضة المحيطات في جميع مستويات السلسلة الغذائية البحرية وعلى بنية النظام البيئي البحري، فمع تسارع وتيرة تغير حموضة المحيطات، يدرك العلماء، ومديرو الموارد، وصانعو القرار الحاجة الماسة إلى تعزيز العلم بوصفه أساساً لاتخاذ الإجراءات الوقائية السليمة والإسعافيّة الممكنة.
المصادر:
1. Ocean acidification and its effects | CoastAdapt [Internet]. Coastadapt.com.au. 2020 [cited 5 May 2020]. Available from: هنا
2. What is Ocean Acidification? [Internet]. Pmel.noaa.gov. 2020 [cited 5 May 2020]. Available from: هنا
3. Effects of Ocean and Coastal Acidification on Ecosystems | US EPA [Internet]. US EPA. 2020 [cited 5 May 2020]. Available from: هنا
4. A primer on pH [Internet]. Pmel.noaa.gov. 2020 [cited 5 May 2020]. Available from: هنا