البكتيريا المعوية: صديقك المفضل وعدوك اللدود في آن واحد
البيولوجيا والتطوّر >>>> الأحياء الدقيقة
ولقد بدأت في السنوات الأخيرة الدراسات على الوصل المعوي الدماغي وبيَّنت أهمية العلاقة المتوازنة بينهما؛ إذ يُعدُّ التوازن الجرثومي السليم في جهازنا الهضمي ضروريًّا لضمان تطورٍ دماغيٍّ سليم، إذًا لم يخطئ أجدادنا عندما قالوا إن العقل السليم في الجسم السليم (1، 3)!
فوجود هذه الجراثيم -التي يُطلَق عليها اصطلاحًا "الفلورا المعوية"- يُعدُّ سلاحًا ذا حدين فيما يتعلق بتفكيك الأدوية، فلنلق نظرة عن كثب على آلية تأثير دواء ليفودوبا (L-dopa) الذي يُعدُّ علاجًا لمرض باركنسون.
يكون الدواء عند دخوله الجسم غير فعال، وعندما يصل إلى الدماغ، تحوله أحد الإنزيمات إلى مركب الدوبامين -وهو الناقل العصبي الذي يعاني مريضُ باركنسون انخفاضَ مستواه.
ويستطيع عديد من جراثيم الفلورا المعوية تخريب هذا الدواء قبل وصولِه إلى الدماغ وتفعيلِه، وبهذا فهي تمنع المريض من الاستفادة منه (2)، ومن الجدير بالذكر أن نسبة هذه الجراثيم تختلف من شخص إلى آخر؛ مما يفسر استجابات المرضى المتفاوتة لهذا الدواء، ويعمل كثير من الباحثين -ومنهم فريق الباحثة (إيميلي ب. بالسكوس) Emily P. Balskus في جامعة هارفارد- على اختبار مركَّبٍ لديه القدرة على منع هذه الجراثيم من تحطيم ليفودوبا ومن ثم تخريبه (1، 2).
تنطبق الحالة نفسها على دواء (ديجوكسين) المُستخدَم في علاج الفشل القلبي واللانظميات القلبية (اضطراب النَّظم القلبي)، فقد بيَّن الباحث (بيتر تورنباو) Peter Turnbaugh من جامعة كاليفورنيا أن سلالات قليلة من جرثوم (إغيرثيلا لينتا) Eggerthella lenta قادرةٌ على تخريب الدواء، مانعةً بذلك نسبةً من المرضى من الاستفادة منه(4).
ولكن دعونا لا نتسرع في الحكم، فالفلورا المعوية لا تعمل دائمًا عكس مصلحتنا، فبإمكانها أن تكون مفيدة لنا في كثيرٍ من الأحيان؛ فعلى سبيل المثال، مركب (سلفاسالازين) -المُستخدَم لعلاج الالتهاب لدى المصابين بداء الأمعاء الالتهابي والتهاب الكولون التقرحي والتهاب المفاصل الروماتيدي- هو عبارة عن مركب غير فعال يتحول بفعل بعض الجراثيم المعوية المنتجة لإنزيم (آزو ريدوكتاسيس) Azo reductases إلى شكله الفعال العلاجي، وينطبق هذا الأمر على كثير من المضادات الحيوية الفموية التي تحمل زمرة السلفا(1، 5).
وهناك دواء آخر يتلقى المساعدة من البكتيريا المعوية، وهو (ميتفورمين) -خط العلاج الأول لمرض السكري من النمط الثاني- وفي الحقيقة فإن العلاقة بين البكتيريا والميتفورمين هي علاقة متبادلة؛ إذ يُغيِّر الدواءُ أعدادَ البكتيريا المعوية تغييرًا مباشرًا أو غير مباشر يجعله فعالًا؛ فعلى سبيل المثال يزيد الميتفورمين من نسبة (ب. أدوليسينتس) B.adolescentis التي يؤدي ارتفاعها في القوارض المصابة بالمتلازمة الاستقلابية إلى زيادة حساسيتها تجاه الإنسولين(6).
لقد ذكرنا عدة أمثلة عن أدوية تؤثر فيها البكتيريا المعوية بما يخدم مصلحتنا أو يتعارض معها، ولكن؛ علينا ألا ننسى الدواء المثير للاهتمام (إيرينوتيكان) Irinotecan المُستخدَم مع مزيج من أدوية أخرى لعلاج الحالات المتقدمة من سرطان الكولون والبنكرياس.
ويُعدُّ هذا الدواء فعالًا جدًّا في القضاء على الخلايا الورمية، ولكنه يملك تأثيرات جانبية مزعجة جدًّا للمرضى كالإسهال الشديد والضرر المعوي؛ مما يجعل كثيرًا منهم يتوقف عن متابعة العلاج به، وقد تَمكَّن الفريق البحثي للكيميائي (ماثيو ريدينبو) Matthew Redinbo في جامعة كارولينا الشمالية من تَتبُّع المشكلة ومعرفة أن بكتيريا (إنتيروباكتيرياسي) Enterobacteriaceae هي السبب وراء هذه التأثيرات الجانبية، فعندما يُعطى هذا الدواء وريديًّا، يُهاجم الخلايا السرطانية ثم يُوجَّه إلى الكبد ليتعدل ويُطرح خارج الجسم، والتعديل في هذه الحالة هو إضافة جذرٍ سكريٍّ إلى المركب الدوائي الذي يذهب بعدها إلى الأمعاء ليُطرح خارج الجسم، وهنا -أي في الأمعاء- تستقبله البكتيريا آنفة الذكر (ومن المعروف عن البكتيريا حبها للسكر)، وتجرِّده من الجذر السكري، فيتفعل الدواء مجددًا في الأمعاء ويظهر تأثيره السام.
لقد توصل الفريق البحثي إلى تطوير مركب قادر على منع هذه البكتيريا من تخريب الجذر السكري للدواء، وبهذا إنقاص تأثيراته الجانبية المعوية، وما يزال هذا الدواء ضمن مرحلة الاختبار على الحيوانات ويأمل الباحثون أن يُختَبر قريبًا على مرضى السرطان (1، 7).
ذكرنا في هذا المقال بعض الأمثلة عن كيفية الاستفادة من الفلورا المعوية في العلاج الدوائي، وكيف يمكن لهذه الفلورا نفسها أن تمنع فعالية الدواء أو حتى أن تساهم في تحويله إلى مركب سام، لذلك فعندما تتناول حبة دواء من الآن فصاعدًا، عليك أن تُفكر بأنك لست الوحيد، لا بل لست أولَ من سيهضمها.
المصادر: