نرجسيتك للبيع بدولارين فقط (يايوي كوساما)
الفنون البصرية >>>> منوعات فنية
يايوي كوساما (Yayoi Kusama) فنانة يابانية ولدت في الثاني والعشرين من آذار عام 1929 في مدينة ماتسوموتو “Matsumoto” في اليابان (1).
وصفت نفسها بالفنانة صاحبة الهاجس أو الفنانة المهووسة "Obsessional Artist" وتعرف Kusama باستخدامها الفن التركيبي (Installation Art) الذي يخلق عوالمَ تبدو لامتناهية (Infinity Installations) وباستخدامها الكثيف نقاط البولكا (Polka Dots) (1)؛ إذ إنّ نقطة البولكا هي واحدة من مجموعة هائلة من النقاط الصغيرة المستديرة التي تُطبع على القماش بنسق منتظم (4).
بدأت بالرسم وهي بعمر الطفولة، وفي هذه الفترة بدأت تعاني الهلوسة التي غالباً ما كانت تتضمن حقولاً من النقاط. وفي المستقبل، استمرت هذه الهلوسات والنقاط بالتأثير في فنها وفي حياتها المهنية. درست الفن فترةً وجيزةً فقط من عام 1948 إلى عام 1949 في مدرسة كيوتو (Kyoto) المتخصصة للفنون، إلا أنها تركت اليابان بسبب المشكلات العائلية وبسبب رغبتها في أن تصبح فنانة واستقرت في ولاية نيويورك في الولايات المتحدة الأميركية بعد أن أَتلَفت العديد من أعمالها المبكرة.
كانت أعمالها في مرحلتها الفنية الأولى في نيويورك مكونة من الآلاف من العلامات الصغيرة المتكررة على لوحات ضخمة تكراراً هائلاً شديد الهوس، ولم تهتم للحواف التي تنتهي عندها اللوحة، كما لو أن هذه العلامات استمرت في الوجود خارج حدود اللوحة، ووصفت كوساما هذه اللوحات بشبكة اللانهاية (Infinity Net). وهذه الأعمال الفنية تبحث وتستكشف الحدود المادية والنفسية للرسم في الفن عن طريق تكرار النقاط والعلامات التي تبدو ممتدة إلى اللانهاية، وهذا ما خلق شعوراً مخدراً شبيهاً بالتنويم تقريباً بالنسبة لكلٍ من المشاهدِ المُتفاعلِ والفنان (1).
Image: https://thepeakmagazine.com.sg/wp-content/uploads/2013/12/33238650211_7f20a1fc2a_b.jpg
نرجسيتك للبيع بدولارين فقط في حديقة ‘Kusama’:
في بينالي فينيسيا (Venice Biennale) عام 1966 وعلى الرغم من أن كوساما لم تكن مدعوة رسميّاً للمشاركة في عرضها، كما هو موثق في سيرتها الذاتية، إلا إنها حصلت على الدعم المادي والمعنوي من الفنان الإيطالي-الأرجنتيني لوسيو فونتانا (Lucio Fontana) الذي كان من الفنانين الداعمين لها في بداية عملها في نيويورك وأدى دوراً أساسياً في تحقيقها عملَ حديقة نرجس(2)، ومن الجدير بالذكر أيضاً أن فونتانا كان الداعم والمؤسس لحركة الفضائية الفنية (Spatialism) التي تأثرت بها كوساما (5)، كما حصلت على الموافقة من رئيس لجنة البينالي حينها لتنظيم وعرض 1500 كرة بلاستيكية فضية على مرج العشب خارج جناح العرض الإيطالي. بلغت الفنانة حينها ذروة نجاحها بسبب النجاح الفني والشهرة الناتجين عن الكلام المنقول عن عملها الفني المشين (Succes de Scandale) والمفاجئ بالنسبة للجمهور.(2)
Image: https://play.qagoma.qld.gov.au/looknowseeforever/images/timeline-images/1966-Narcissus-Garden-1-full.jpg
كوّنت الكرات الـ 1500 الفضية المتلألئة والمرتبة على نحوٍ متلاصق حقلاً انعكاسيّاً لا نهاية له تنعكس فيه صورة الفنانة، والزائرين، والأبنية، والطبيعة المحيطة على الكرات، فقد كرر هذا المجال الانعكاسي الصور وعرضها عرضاً مُشوّهَ النِّسَبِ بسبب السطوح الكروية التي تشبه مرآة تنتج صوراً أقرب وأصغر من الواقع (2).
خلال أسبوع الافتتاح، وضعت كوساما لافتتين على العشب عند عملها، وهما: "حديقة نرسيس، كوساما"“NARCISSUS GARDEN, KUSAMA” و "نرجسيتك للبيع" “YOUR NARCISSIUM [sic] FOR SALE” على العشب.(2). كأنها بائعة متجولة، كانت تبيع هذه الكرات العاكسة للمارة بقيمة دولارين فقط للكرة الواحدة وهي تقوم بتوزيع منشورات تتضمن كلمات الفيلسوف مؤرخ الفن الإنجليزي هربرت ريد (Herbert Read) وهذه المنشورات كانت تحمل ملاحظاته وإطراءه على عمل كوساما. إنها لفتت بوعيٍ وتيقّظٍ الانتباهَ لاختلاف إرثها الحضاري عن طريق ارتداء اللباس التقليدي الياباني (الكيمونو Kimono) وكان الكيمونو الذي ارتدته ذهبياً مع وشاحٍ فضي اللون (2). كان هذا التبادل المتعلق بالعملة بين كوساما ومشترين الكرات تأكيداً جلياً على النظام المالي والاقتصادي الذي أصبح راسخاً في الإنتاج الفني وتداوله في المعارض الفنية (2).
من هو نرسيس (نرجس) Narcissus الذي أعادت كوساما تشكيل حديقته بفهم معاصر؟ وما هي النرجسية في يومنا هذا؟
تبعاً للأسطورة الإغريقية، نرسيس هو ابن إله النهر سيفيسوس (Cephissus) والروح (أو الحورية) ليريوبي (Liriope)، وعُرف نرسيس وتميّز بجماله. وفقاً لأوفيد (Ovid) في كتابه مسخ الكائنات (أو التحولات) (Metamorphoses)، الكتاب الثالث، أخبر العراف الأعمى تايريسياس (Tiresias) أم نرسيس بأن نرسيس سوف يحظى بعمرٍ طويل، بشرط ألا يتعرف على نفسه وصورته أبداً. ولكنه عندما رفض حب حورية الجبل إيكو (Echo) واختفت بسبب رفضه حبَّها وكل ما بقي منها بعد اختفائها هو صوتها الذي كانت تستطيع استخدامه فقط لتردد كلمات غيرها -ومن هنا Echo بالعربية هو الصدى-، أو كما ذُكر في نسخة سابقة عن الأسطورة، عندما رفض نرسيس حب الشاب أمينياس (Ameinias)، هذا الأخير الذي قتل نفسه بسبب عدم مبادلة نرسيس لحبه، حرّض نرسيس بذلك ثأر الآلهة وانتقامَها. حين شاهد نرسيس انعكاس وجهه على سطح ماء نبعة، وتعرّف صورته، وقع في حب انعكاسه على الماء، وعندما لم يقدر الانعكاس على مبادلته الحب (كما فعل نرسيس مع محبينه)، ما كان من نرسيس إلا أن تلاشى واختفى (أو قتل نفسه). نبتت أزهار في المكان الذي قتل نرسيس نفسه فيه، وهي أزهار النرجس التي تحمل اسمه اليوم.
لربما كانت هذه الأسطورة قد أتت من الخرافات الإغريقية القائلة بأنه عندما يرى ويميز المرء انعكاسه، قد يكون ذلك جالباً لسوء الحظ أو حتى مميتاً. كان نرسيس موضوعاً شائعاً جداً في الفن الروماني. وفي الطب النفسي والتحليل النفسي الفرويدي (Freudian)، يدل مصطلح النرجسية (Narcissism)على درجة عالية ومعقدة من الثقة الزائدة بالنفس ومن الأنانية والاعجاب والانغلاق على النفس وتعظيم أفكارها، وهذه الحالة تكون عادة شكلاَ من أشكال عدم النضج العاطفي (3).
Image: https://www.liverpoolmuseums.org.uk/
نبعة المياه هي مرايا كوساما الكروية، والزائرون هم نرسيس نفسه:
بدءاً من عام 1966، فسّر الكثيرون هذا العمل على أنه ترويج ذاتي للفنانة واعتراضها على تسليع الفن في آن واحد. منذ ذلك الحين، أصبح عمل كوساما، حديقة نرسيس، واحداً من أهم رموز تاريخ الفن. وحصل العمل على شعبية كبيرة بين مؤسسات الفن في جميع أنحاء العالم، مما أبقاه حياً ومرغوباً لإعادة عرضه حتى الآن في أماكن متعددة -نذكر منها حديقة سنترال بارك في نيويورك (Central Park in New York City).
إعادة إنشاء حديقة نرجس لعرض هذا العمل مراراً وتكراراً محت فكرة التشاؤم السياسي القائم على التحليل الذاتي ومحت النقد الاجتماعي؛ إذ بدلاً من ذلك كله وعلى العكس، أصبحت تلك الكرات اللامعة، التي تصنع الآن من الفولاذ المضاد للصدأ (Stainless Steel) وتحمل بطاقات عليها أرقام أسعارها الباهظة، رمزاً يعدّ جائزة تعبر عن النفوذ وأهمية الذات، هي التي كانت قد صنعت بالأصل وسيلةً للتفاعل بين الفنان والمتلقي، تعدُّ الآن سلعاً قيمة للعرض فقط (2).
علقت مؤرخة الفن، جودي كتلر (Jody Cutler)، على عمل كوساما بأنه يضعها "في حوار مع الحالة النفسية التي تعرف بالنرجسية" ذلك لأن "النرجسية هي الموضوع والمحرض المسبب لفن Kusama في آن واحد، أو بتعبير آخر، عملها هو عنصر فني واعٍ متعلق بموضوع المحتوى." وانطلاقاً من هذا السياق، يمكننا فهم كوساما وحديقتها، حديقة نرجس الشهيرة، بأن (النرجسية، بجزء منها، هي الأنانية وإعجاب الإنسان بذاته).(2)
كان حجم كل كرة في حديقة يايوي كوساما شبيهاً بحجم كرة العرافة الكريستالية، ولكن عند التحديق في أي كرة من هذه المرايا الكروية، لم يرَ المشاهد إلا انعكاسه يحدق بالمقابل، مما فرض مواجهة مع غرور الذات والتكبر والأنا.(2)
Image: https://cdn.kastatic.org/ka-perseus-images/d72269a16b3e24579481f630d1ef4dedd9898b59.jpg
ما يدعو للسخرية -على الرغم من كل ما ذكر أعلاه- هو أن مفهوم النرجسية الذي كان مقدماً بطريقة مبطنة وعميقة من الفنانة في هذا العمل قد أصبح مبالغاً به، ليس فقط بسبب تفوق الفنانة ونجاحها الذي انتشر انتشاراً واسعاً، وإنما بسبب المتلقين والمشاهدين في عصرنا، عصر الإنترنت. إذ وهم مفتونون بصورهم التي تظهر على أسطح الكرات المحدبة، يلتقط المشاهدون صورهم باستخدام هواتفهم الذكية وبتحميل هذه الصور على الفور إلى وسائل التواصل الاجتماعي ليرى بقية العالم هذه الصور. وبذلك، يبدو أن فكرة التقاط ونشر اللحظة التي تتوحد فيها صورة المرء مع عنصر مميز في مكان مميز هي فكرة تحفز الهوس بالذات. ولتأكيد وإبراز تأثير تحديق المرء في انعكاس ذاته المتكررة أكثر من مرة على الكرات، تضع الكثير من مؤسسات الفن الآن كرات حدائق نرسيس عائمة على سطح الماء، فقد كانت نبعة الماء هي المكان الذي حدثت قصة نرسيس من الأسطورة الإغريقية فيه، حيث وقع نرسيس بحب انعكاسه ليلقى حتفه غارقاً في النهاية.(2)
المصادر: