بَيْن خيوط الإبداع , التّمرُّد , وإثارة الجدلْ ...ايفان كرامسكوي
الفنون البصرية >>>> فنانون عالميّون
كرامسكُوْي، فنّانٌ روسيٌّ، مبدعٌ بالفنِّ التّاريخيّ و رَسمْ البورتريهات ( رسم الأشخاص التّصويري )، و أستاذٌ في المذهب التّصويري الواقعيّ.
كما كان حالُ مُعظمِ أعلامِ الفنّ الخالدة، فإنَّ كرامسكوي لم يتلقّى أيّ تعليمٍ في الرّسمِ في بداية حياته، فَفي طفولتِهِ تَمرَّن على الرّسم بشكلٍ مُستقلٍّ تماماً إلى جانبِ دراستِهِ في مرْحلة التَّعليم الأساسيّْ.
عندما بلغ السّادس عشْرةَ من عُمره عمل في التّصويرِ الفوتوغرافيّ في العاصمةِ كَمساعدٍ في التّعديل اللّونيّ للصّور الفوتوغرافيّة، ولم يبقَ كثيراً في هذا المجال حيثُ التحق في السّنة الّتي تليها بالـ " أكاديميّة الرُّوسيَّة العُظمى للفنون " في petersburg، حيث أثبت هناكَ وبِقليلٍ من الوقت موهبةَ مُتفرِّدةً ومتميّزةً لم تُوجد عند الكثيرِ من أَقرانِهْ .
نَضجَ كرامسكوي وأصبحَ رّساماً مُتقِناً ومُختصّاً برسم " البورتريه ".
لوحاتُه كانتْ تُعرفُ من دِقّتها الّلامُتناهِيَة وواقعيّتها، بالرّغمِ من زَهْدِهِ اللّونِيّ في لوحاته.
زاولَ كرامسكوي الفنّ كمُتمرِّدٍ على القوانينِ والأُسسس الفَنيّةِ السّائدةِ أكادِيميّاً حِينها، ممّا أدّى إلى فصْلِه مُبكّراً من الأكاديمية الرّوسيّة كَردٍّ على سُلوكه، ولم يُعرقلْه هذا عن حشْد أربعةَ عشْر طالباً من أقرانِه حولهُ مُشكّلين ما عُرِف بـ "جماعة المعارض الفنيّة الجوَّالة" ، أَوْ ثورة "الأربعة عشَرْ" !
حيثُ عُرفوا بامتلاكهم حُريَّة القرارِ الفكريّ والمَوضوعيّ في لوحاتِهم خارجِين عن أيّة اعتباراتٍ سائدة .
ابنٌ لعائلةٍ فقيرةٍ ( مُحافظةٍ بعضَ الشّيء ) ، مُنحّى من قِبَل أكاديميّة الفُنون، ثائرٌ ضدّ الفنّ الأكاديمي بقُيُوده ... هذا هو كرامسكوي ...
ميّزهُ دائماً تأثُّره بالأفكارِ الدّيمُقراطيّةِ للثّورةِ الرّوسيّةِ ... وأفكارُه تلْك ظهرتْ بشكلٍ واسعٍ في الّلوحات الّتي رسمها للفلاّحين، الّتي أبرزَتْ غِنَى التّفاصيلِ البسيطةِ الشّعبيّةِ بنماذجَ من عامّةِ الشّعبِ والناسْ :
The Forest Ranger - 1874
A Peasant With a Bridle - 1883
بدأ كرامسكُوي في أرجاءِ أوروبا سلسلةً متواصلةً من "البورتريهات" لأعلامِ تلك الحَقَبَة ...
أمّا بالنّسبةِ لمَضْمون لوحاتِهِ الفِكريّ والفَنّي ...فقدْ كان لاعِباً مُحترفاً على الخيْطِ الدَّقيقِ الفاصِل فيما بين الرّسم التّصويري للأشخاص، والفنّ الفكري الموضوعي في الوقتِ ذاتِهِ ، والّذي تجلّى بالعديدِ من لوحاتِه أبرزُها :
"portrait of unknown woman "
"لوحة المرأة المجهولة " (1883)
واحدةٌ من أشهرِ وأَغمضِ وأغربِ الأعمالِ الفنيّة لـ كرامسكوي، تُجسّد امرأةً مَجْهولةَ الهويّةِ تبدُو وكأنّها تُحدِّق بالنّاظرِ إلى اللّوحة بنظرةٍ مُتعاليةٍ هازِئةٍ وهادئةْ، قويّةٍ ومُباشرةْ .
سيّدةٌ مجهولةُ الهويّة تجلس جَلْسةً فخورةً مُعتزّةً في عربةٍ فخمةٍ مَكشوفةٍ على جسرِ Anichkov في مدينة Saint Petersburg، مُتوضِّعةٌ على خلفيّةٍ شَتَويّةٍ روسيّةْ ، امرأةٌ جميلةٌ ساحرةْ برغمِ أنّ جمالَها ليسَ استثنائيّ ! ، يُمكننا لمسُ شخصيّتها المُركّبة من خلال ترجمةِ شفتاها الحسّاستين، حواجِبها الثّخينة، مُعاصرَتِها للأناقةِ بِلباسِها الفَرويّ والمُخْمَليّ الأسودْ مع قُفّازاتٍ جِلديّةٍ أُنثويّةٍ ناعِمةْ، وقُبّعةٍ من الفَرُو لطالما زيّنتْ رؤوسَ النّساء الأرستقراطيّات في ذالك العصر.
هويّتها لم تَكنْ قابلةً للإثْبات من قِبَل المؤرّخين، حتّى كرامسكوي منحها اسمَ " المجهولة " ولم يقمْ بذِكر هويّتها في أيٍّ من رسائِله أو مُذكّراتِه ممّا قاد بدورِهِ إلى مَزيدٍ من السُّمعةِ عاليةِ الغموضِ للّوحة ...
أثارتْ لوحةُ المرأة المجهُولة صخباً شديداً وضوْضَاء ، خاصّةً في الوسطِ النّقديّ عندما تمّ عرضُها للمرّة الأولى، وذلك بسببِ فكرةِ العملِ أكثرَ منهُ بسببِ جماليّتهِ ،حيث أنّ عدداً كبيراً من النُّقاد افترضوا أنّ اللّوحة تُمثّل تَجسيداً لامرأةٍ "مُومِسْ" تبيعُ نفسَها في عربةْ !
وفي رِواية أُخرى :
" امرأةٌ ذاتُ جمالٍ صارخْ ، ترمِقُكَ بنظْرةٍ حسيّةٍ هازئةْ من عربةٍ فاخرةْ !
أَليستْ هذهِ واحدةٌ من فَوْحَاتِ المُدنِ الكبيرةِ الّتي تسمحُ للنّساءِ الرّخيصاتِ، المُتأنّقاتِ بالملابسِ الفخمةْ ، بالمُتاجرةِ بثمَن عِفَّتِهِنَّ في الشّوارع !؟ "
أمّا كرامسكوي فـَ نوّهَ قائلا " بعض النّاس قالوا أنّه ليسَ معْروفاً مَنْ هي تلكَ المرأَة. أَهي مُحترمة ؟ أو أنّها تبيعُ نفسَهَا ؟ ولكنَها من المُؤكَد أنّها احتَوَتْ بداخِلها عَصْراً بأكملِهِ ! "
اللّوحة اليوم نجدها مَعروضة في صالة عرض Tretyakov Gallery في موسكو – روسيا، بعد أنْ رفضَ في البدايةِ مسؤولُ الصّالة Pavel Tretyakov شرائَها.
استُعملتْ هذه الّلوحة كغلافٍ لبعض نسخاتAnna Karenina" " لـ Leo Tolstoy في 2008 ممّا أدّى إلى اعتقاد مُعظم النّاسِ بأنّها تبدو نوعاً ما كـ Anna ، فهي تملك ذاك النّوعَ من الإحساسِ الُمميّزِ ... ذاكَ الطّابعُ الروسيُّ الاستثنائيّ، فليس من الغريب أنْ يربطَ النّقادُ تلك الهويّة المجهولة بالعديدِ من نساءِ تلك الحَقبةِ المَشهوْرات، وأنْ تسمعَ العديدَ من الشّائعاتِ تقولُ أنّ الفتاة هي " صوفيا " ... ابنَة كرامسكوي !
في زمن السّوفييت، لوحة كرامسكوي أصبحتْ عمليّاً وكأنّها "عذراءُ روسيا"، تُجسّد الجمالَ الرُّوحيّ المُتفرِّد وكأنّه خارقٌ للطّبيعةِ البشريّة، وأصبحتْ تُعلّقُ في كلّ منزلٍ سوفييتيٍّ مُحترَمْ ، فازدادَتْ شعبيّتُها بسرعةٍ ، كجُزءٍ من جماليّةِ الخطِيْئة الّتي أصبحتْ موضوعاً مُنتشراً فيما بعد بينَ الأجيالِ اللّاحقة من الفنّانين الرّوسيين.
وبعد أنْ دُفن السّر في هذه اللّوحة مع الرّسام ... دعونا ننتقلْ لواحدةٍ من "أعمق" أعمالِه على الإطلاق !
"CHRIST IN DESERT " (1882)
مُعلّقةٌ اليومَ أيضاً على جُدران Tretyakov Gallery في موسكو الرّوسية .
عرضَ كرامسكوي لوحتَه "مسيحٌ في الصّحراء " بعد أنْ عمِلَ عليها لعدّةِ سنوات ...
تعامل كرامسكوي من خلال هذه التُّحفة الفنيّة مع أكثرِ الأفكارِ الدّينيّةِ حساسيّةً آنذاك، بطريقةٍ رُوحانيّةٍ وفلسفيّةٍ أعطَتْها معنىً اجتماعيّاً مُعاصِراً ، حيثُ عبّر بها بأسلوبٍ معاصرٍ لزمنِه عن فكرةِ التّأمُّلِ المُعقّدِ والعمِيق المُتعلّقِ بمصيرِ البشريّةِ ومَصير الحياةْ، و كذلك فكرةُ التّضحيةِ النّبيلةْ .
نرى من خلالِها أنّه جسّدَ المسيح على هيئةٍ بشريّةٍ بحتَة ، واستناداً لقول كرامسكوي فإنّ الفنّانين اللّذين يّدرُسُون بفنّهم وأعمالِهِم، الماضي و العصور السّابقة، عَمَدُوا غالباً للإنجيل والميثيولوجيا كوسائلَ لنقلِ أفكارِهِم ومُعتقداتِهم وآرائِهم ... أمّا هو فقد جسّد المسيحَ بلوحتِه بصورةِ رجلٍ مُفكِّرٍ، مُفْعمٍ ومُستغرقٍ بالأفكارِ الدِّينيّة والرّوحيَّة النّبيلة ، وكأنّه يُهيّئ نَفسَه لكي تكونَ الأُضْحِيَةْ !
ويجدرُ بالذّكر أنّ "المسيح" لطالما كان موضوعاً و فِكراً رُوحيّاً ل لوحات كرامسكوي وفنّه .
هذا النّوع من لوحات كرامسكوي اشتُهِر بإبرازِه للعواطف النّفسيّة الدّاخلية المعقّدة للشّخصيّاتِ المَرسومةِ وتعبيرهِ عن العاملِ النّفسيّ للإنسانْ ومُحاكاةِ لُعبةِ القَدَرْ.
النّزعةُ الدّيمقراطيةُ الشّعبيّةُ المُتواضِعة في أعمال كرامسكوي ، آراؤهُ الذّكية واللاّذعَة في مجالِ النّقدِ الفنّيّ ، وبحثُهُ المتواصلُ عن المعايِير الاجتماعيّةِ والجَوهرِ الرُّوحيّ في الدّين ، جعلتْ من أعمالِهِ عاملاً مُؤثّراً بشدّةٍ في المسارِ الفنيّ والفكريّ في روسيا .
كرامسكوي خلال حياتِه ، أنتج أيضاً العديد من الأعمالِ الفنيّةِ للكنائِسْ ، ولكنْ ذلك كان بهدفِ كسْبِ لقمةِ العيش .
تُوفيَّ وهو في عملِهِ، غارِقاً بأفكارهِ و إحساسِه و ألوانِه، واقِفاً أمامَ مرْسَمِهِ، يضعُ اللّمساتِ الأخيرةَ على لوحةٍ لـ Doctor Rauchfus والّتي بَقِيَتْ غيرَ مُكْتملةٍ برحِيْلِه ...
المصادر :
هنا
هنا
هنا
الصور من:
هنا
هنا