ناقوس القراءة: الشبكة العنكبوتية وأدمغتنا
علم النفس >>>> المنوعات وعلم النفس الحديث
إنّه كلامٌ عاطفيّ يحرّك المشاعر ويتهمنا بالخيانة. ولكن هل للعلم في هذا رأيٌ آخر.
ها هو فريقٌ من الباحثين الدوليين، من مجموعة جامعات منها جامعتي Oxford وHarvard، يجد أنّه يمكن للإنترنت أن يسبب تبدلات حادة وثابتة في مناطق الإدراك والمعرفة في الدماغ، والتي بدورها تؤثّر على الدماغ، ويشمل هذا التأثير قدرات الانتباه وعمليات معالجة الذاكرة ومهاراتنا في التواصل الاجتماعي (1).
أحد أبرز نتائج هذه المراجعة الأولى من نوعها والتي نشرها فريق الباحثين سابق الذكر في مجلة World Psychiatry أنّ الإفراط في استخدام الإنترنت قد يؤثر بالفعل في العديد من وظائف الدماغ. فعلى سبيل المثال كمية الإشعارات والعروض الترويجية التي يغدقها علينا الانترنت تشتت تركيزنا وتوزعه، وبالتالي تنخفض قدرتنا في الحفاظ على التركيز في مهمة واحدة، ويحوّلنا إلى متعددي المهام، كنوع شبيه لما يسمى بفرط النشاط ونقص الانتباه (ADHD). ولذلك توصي منظمة الصحة العالمية بأن لا يتجاوز تعرض الأطفال ممن تتراوح أعمارهم من 2-5 سنوات للشاشات الساعة يوميًا (1).
يقول الدكتور Josef Firth؛ قائد البحث وأحد كبار الباحثين في معهد NICM للبحوث الصحية في جامعة ويسترن سيدني، أنّ التدفق السريع واللامحدود للوسائط الرقمية يدفعنا لاعتماد نمط سلوكي يدعى بتعدد المهام متعدد الوسائط (تعدد المهام الإعلامية media multi-tasking) وهو التفاعل مع أشياء كثيرة في الوقت نفسه، ولذلك يكون الأشخاص المنخرطين في هكذا أنواع من الأنشطة أقل قدرة على الانتباه والتركيز على مهمة واحدة فقط، إضافة إلى أنه يجعلنا أقل قدرة على تجاهل المشتتات، فتجد أدمغتنا تتنقل بين المعلومات بسرعة لنقل البيانات، ولم نعد نملك الطاقة لقراءة النصوص الطويلة، نقلّب أعيننا عبر النصوص بحثًا عن المهم فقط، ولم نعد نهوى قراءة ما بين السطور، ولا ذلك المعنى الدفين في قلب الشاعر، وأغلبنا -وإن كان باحثًا- تجد اقتباساته تأتي من أول صفحتين أو ثلاث من بحثٍ طويلٍ من عشرات الصفحات.
ولكن هل يغير الانترنت بنية الدماغ حقًا؟
يجيبنا الدكتور Firth: نعم. ربما قد يأخذ هذا التغيير وقتًا طويلًا ليظهر، إلاّ أنه عندما فحصنا الدماغ، مستخدمين التصوير بجهاز المرنان المغناطيسي الوظيفي MRI، لاحظنا تغيراتٍ واضحة في نشاط الدماغ لدى من يفرطون في استخدام الوسائط المتعددة مقارنةً بغيرهم.
وفي دراسة منفصلة، عثر الباحثون على أدلة تجريبية تدل على تأثير ضار محتمل طويل المدى للوسائط المتعددة على مشاكل الانتباه (Attentional deficits)، وذلك فقط بين المراهقين في مراحلهم العمرية الأولى، أيّ ليس بالنسبة للمراهقين في المراحل العمرية الأخرى؛ إذ يؤثر استخدام الانترنت في أجزاء الدماغ المرتبطة بوظائف الذاكرة (2).
وتظهر الدراسات والاستبيانات لدى فئة طُلب منها جمع المعلومات على الإنترنت أن الأفراد كانوا قد أنهوا مهامهم بسرعة تفوق أقرانهم الذين اعتمدوا على مصادر مطبوعة. إلاّ أنّهم كانوا أقل دقة في تذكر هذه المعلومات لأنّ استخدامهم للإنترنت قد سبب تغييرًا في مناطق الدماغ المرتبطة بتشكيل الذاكرة طويلة الأمد، وهذا ما قلل من قدرتها على تخزين المعلومات واستذكارها.
ويضيف Firth أنّ دماغنا يكون أكثر عرضة لهذا التغيير عندما يكون في طور النمو. أي أنه يؤثر في الأطفال والمراهقين في مراحلهم العمرية الأولى أكثر من البالغين. لأنّ قدرتنا على الانتباه لا تولد معنا، وإنما نكتسبها ونطورها عبر سني عمرنا.
يقضي الكاتب وقتًا من عمره ينسج لنا خيط أفكاره عبر مخطط منطقي يرتقي بنا إلى ذروة الفكرة. ونحن -كقارئين- نلتمسه أثناء القراءة ونتبعه طالما أنّ الكتاب محسوس بين أيدينا، نستطيع في أي وقت أثناء القراءة العودة إلى نقطة انقطع فيها ذاك التسلسل المنطقي للأفكار، وهو أمر لا نستطيعه مع نصوص الوسائط المتعددة مع كل هذه العوامل المشتتة للانتباه! ناهيك عن لذة التذكر التي تمنحك إياه الذاكرة المكانية، فنحن نتذكر الصفحة ورقمها وفي أي جزء من الصفحة كنا قد رأينا المعلومة. وبذلك قد شغلنا جميع حواسنا في عملية تخزين وتذكر المعلومات.
وفي هذا يدعمنا الاقتباس التالي من مراجعة كتاب كيف تصنع التكنولوجيا الرقمية بصمتها على أدمغتنا (How digital technologies are leaving their mark on our brains) للكاتبة Susan Greenfield "إنّ التمثيل العقلي المكاني لمخطط النص يؤدي إلى فهم أفضل للنص" (3).
وهذا ما عبر عنه أيضًا الطلاب في استبيان حول عادات البحث لدى 400 طالب كندي؛ إذ شعر الطلاب براحة في جمع المعلومات باستخدام الانترنت عندما كانت المعلومات المطلوبة محددة. ولكن عندما طلب منهم إنجاز عمل متكامل فضلوا استخدام الكتب المطبوعة وعللوا ذلك بأنّ الكتب تعطيهم الشعور بالكمال والاكتمال، فكل شيء يريدونه ملك أيديهم يستطيعون العودة إليه متى شاؤوا (4).
بينما أنت تقرأ على الانترنت مع كل هذه الروابط الخارجية، وبينما أنت في منتصف خيط المنطق ذاك، سيقطعك رابط لذيذ، يغني نهمك لمعرفة أمرٍ جديد، وسيشتتك للأسف ويبعدك عما بدأت به، فتدخل فيما يشبه الشبكة العنكبوتية أنت ودماغك، تقفزان فيما يسمى التصفح (skimming) تبحثان سريعًا عن المعلومات المفيدة فحسب، وهذا ما نسميه بالقراءة السطحية.
إذًا غيّر الانترنت طريقتنا في القراءة والبحث وحوّلها من قراءة استنتاجية وتأملية، إلى سطحية متقلقلة. إنّه لتطور غني بالمعلومات مغرٍ ولكنه يغمرنا حدّ الغرق، وهذا ما نسميه الموت غرقًا في العسل!
ويكمن القلق هنا هو أنّ اعتمادنا المستمر على هذا النوع من القراءة سيفقدنا قدرتنا على القراءة التحليلية والمنطقية، مؤثرا على تشكل الروابط العصبية اللازمة لها في مناطق الدماغ المسؤولة عن المعالجة البصرية والصوتية (4).
وهذا ما يفسر رغبتنا في جمع المعلومات وحفظها دون أن نقرأها، فلربما بدأت أدمغتنا تقرع ناقوس قراءتنا معلنةً حالة التأهب والخطر.
من الواضح أن الانترنت قد غيّر حياتنا الاجتماعية وعلاقاتنا بشكل جذري، وهنا تكمن أهمية أن نفهم وندرك إمكانيته هذه، وأن نحدد جوانب سلوكنا التي ستتغير، وأيها التي يجب ألا يتغير، حاسبين بدقة معدل الضرر الذي قد يحصل لنرسم خيارنا (1).
المصادر:
1- Firth J, Torous J, Stubbs B, Firth J, Steiner G, Smith L et1- al. The “online brain”: how the Internet may be changing our cognition. World Psychiatry. 2019;18(2):119-129.
هنا
2- Baumgartner S, van der Schuur W, Lemmens J, te Poe F. The Relationship Between Media Multitasking and Attention Problems in Adolescents: Results of Two Longitudinal Studies. Human Communication Research. 2017;.
هنا
3- Davies T. Mind change: How digital technologies are leaving their mark on our brains. New Media & Society. 2016;18(9):2139-2141.
هنا
4- 4-Words Onscreen: The fate of reading in a digital world Naomi Baron Oxford: Oxford University Press, 2015 ISBN 978-0-19-931576-5 320 pages, hb, pb, and ebook Price £16.99 (hb), £12.99 (pb), £16.99 (ebook). Logos. 2016;27(2):62-63.
هنا