ما الذي يجعلنا ما نحن عليه؟
علم النفس >>>> المنوعات وعلم النفس الحديث
بدايةً علينا أن نحدد ماذا نعني بمصطلح (تطور الشخصية)، إذ يُستخدم هذا المصطلح لوصف عملية بناءٍ وظهورٍ لأنماطٍ معينةٍ من السلوك البشري عبر الزمن، مما يكوِّن شخصية الفرد المميزة، وتشترك العديد من العوامل الجينية والبيئية والأسرية والمتغيرات المجتمعية في هذه العملية (1).
النظريات القديمة المتداولة عن تطور الشخصية:
وضع المفكرون نظرياتٍ عديدةٍ لشرح مراحل وخطوات تطوّر الشخصية، إذ ركزت بعض هذه النظريات على التطوّر المعرفي والاجتماعي والأخلاقي.
1- نظرية فرويد عن مراحل التطور النفسي الجنسي:
يقترح سيغموند فرويد في نظريته على أنَّ مراحل الشخصية مرتبطةٌ بالمناطق المثيرة جنسياً في جسد الشخص، وأنَّ الفشل في تخطي هذه المراحل يؤدي إلى مشكلاتٍ بعد البلوغ.
وضع فرويد هيكلاً للبنية المُكونة للشخصية، فالشهوة الجنسية هي المحرك الأساسي للسلوك (الليبيدو). وتزود هذه الطاقة الليبيدية المكونات الثلاث للشخصية بالقوة؛ "الهو" وهو الجانب الموجود منذ الولادة والذي يدفع الأشخاص إلى إشباع رغباتهم البدائية والملحة، و"الأنا" المسؤول عن التحكم بحوافز الهو وإجبارها على التصرف بطريقةٍ واقعية، أما "الأنا الأعلى" فهو الجانب النهائي للشخصية، ويتكون من كل المثاليات والأخلاقيات والقيم المستقاة من الأهل والثقافة، ساعياً إلى أن يجعل الأنا يتصرف وفقاً لهذه القيم. ويجب على الأنا أن يكون الوسيط بين الاحتياجات الأولية والمعايير المثالية للأنا الأعلى والواقع. وقد اتسمت هذه النظرية بشهرةٍ كبيرةٍ جداً على الرغم من التشكيك الملحوظ بها في العديد من الأبحاث العلمية.
2- التطور النفسي الاجتماعي لإيركسون "Erikson":
على الرغم من أن هذه النظرية مبنية على مراحل فرويد السابقة، فإن إريكسون ركز على كيفية تأثير العلاقات الإجتماعية في الشخصية، وتناول مراحل الحياة جميعها وليس مرحلة الطفولة فقط. إذ قسم حياة الفرد إلى ثماني مراحل تحتوي كل منها على أزمةٍ تختبر مهارةً معينة، إن تجاوزها الشخص فهذا يدل على أنه يمتاز بالإتقان والحياة النوعية الجيدة.
3- التطور المعرفي عند بياجيه "Piaget":
(الأطفال يفكرون على نحوٍ مختلفٍ عن البالغين) هذه هي الفكرة المحورية في نظرية بياجيه للتطور المعرفي. إذ يقترح بياجيه أن الأطفال يمرون بأربع مراحل تحمل تبدلاتٍ كبيرةٍ في طريقة تفكيرهم عن أنفسهم والأشخاص الأخرين والعالم من حولهم، مما يؤدي دوراً عظيماً في تكوين شخصياتهم.
4- التطور الأخلاقي عند كولبرغ "Kohlberg":
وسع كولبرغ نظرية بياجيه لتشمل ستة مراحل مختلفة، مركزاً على نمو الأفكار الأخلاقية.
وعلى غرار نظرية بياجيه انتُقدت نظرية كولبرغ لأسبابٍ عديدةٍ أهمها أنها لم تراعي الفروق بين الجنسين والثقافات المختلفة (1).
النظرة الحديثة لتطور الشخصية:
على عكس النظريات الكلاسيكية القديمة التي استعرضناها، ظهرت نظريةٌ حديثةٌ وَضعت قالب الشخصية وتطورها والدوافع المؤثرة في هيكلٍ واحدٍ لتسلّط الضوء على العمليات المشاركة في جودة حياة الإنسان ونموه.
تحدثت النظرية التي نُشرت في مجلة (psychology review) عن تمحور شخصياتنا عن وجود حاجاتٍ أساسيةٍ لنا نشترك بها بكوننا بشر، إذ يولد الأطفال مع ثلاث حاجاتٍ أساسية؛ أولها الحاجة إلى بناء توقعاتٍ عن العالم من حولهم، ثانياً الحاجة إلى التنافس على التأثير في المحيط، إضافةً إلى حاجتنا -بوصفنا كائناتٍ اجتماعيةٍ- إلى التقبل من الآخرين. ومع تقدم الطفل بالعمر تظهر لديه حاجاتٌ جديدةٌ تَنتُج عن المشاركات بين هذه الحاجات الثلاث.
يأتي الأطفال إلى العالم بشرهٍ كبيرٍ للمعرفة والبحث عن كافة المعلومات المتعلقة بهذه الحاجات في المحيط من حولهم، ومن خلال هذه الاحتياجات يبدأون ببناء اعتقاداتٍ عن العالم ودورهم فيه، متسائلين إن كان مكاناً جيداً أم سيء؟ أو إن كانوا يستطيعون التأثير فيه لتحقيق رغباتهم؟ تمثل هذه الاعتقادات إضافةً إلى المشاعر والميول لأفعالٍ معينةٍ ما يسمى BEATs (BEATs: beliefs, emotions, and action tendencies) وهو مجموع التجارب المتراكمة والمستمرة للأشخاص في محاولاتهم لإشباع حاجاتهم مما يؤثر على نحوٍ كبيرٍ في الشخصية البشرية بقسميها الظاهر والباطن.
يتشكل الأساس من الشخصية في العقل الباطن نتيجةً إلى التقاء الحاجات مع الاعتقادات المكتسبة والمشاعر والتصرفات، وتقود العقل الظاهر إلى ملاحقة الأهداف الشخصية، أي ما يفعله الشخص على أرض الواقع. على سبيل المثال يوجد لدى جميع الناس حاجةً إلى إظهار الكفاءة، ولكن الطريقة التي يسعى من خلالها الأشخاص إلى تحقيق ذلك هو ما يبين الاختلاف فيما بينهم تبعاً إلى (BEATs) في عقلهم الباطن (2).
هل شخصياتنا نحن البالغون هي ذاتها عندما كنا أطفال؟
في دراسةٍ ركزت على أربع صفاتٍ شخصيةٍ هي الطلاقة اللغوية والتكيف والاندفاع والتقليل من النفس،
وُجِدَ أن الأطفال الذين كان تقييمهم أنهم طلقين لغوياً أو قادرين على التكيف مع محيطهم من قبل أساتذتهم قد أظهروا اهتماماً عالياً في المسائل الذهنية وامتازوا بالقدرة على التكلم بطلاقةٍ والتحكم بالموقف بعدما أصبحوا بالغين في أواسط أعمارهم، أما الأطفال الذين وُصفوا بأنهم قليلي الاندفاع فقد عانوا -وهم بالغين- الخجل والخوف وحاولوا إبقاء مسافةٍ مع الأشخاص من حولهم، كذلك فإنَّ التقليل من الذات انعكس بعد البلوغ أيضاً، مثل الشعور بالذنب وعدم الأمان إضافةً إلى النظر بطريقةٍ سلبيةٍ كبيرةٍ إلى الذات (4).
كذلك فقد أُجريت دراسةٌ أخرى لبيان العلاقة بين الصفات الشخصية في سن الثلاثين والتعرض إلى سوء المعاملة من قبل الأهل في الطفولة، ظهر فيها ارتباط التعرض إلى تعنيفٍ جنسي أو الإهمال في الطفولة مع معدلاتٍ عاليةٍ من العصابية، إضافةً إلى أنَّ معاناة الإهمال الأبوي في السابق قد خفض من انفتاح الشخص على التجارب وامتلاكه ضميراً حي (3).
مما لا شك فيه أن الكثير من شخصياتنا حددتها الصفات التي ورثناها والتجارب الطفولية المبكرة، إلّا أنه على الرغم من ذلك فإن شخصياتنا وصفاتنا ستستمر بالتطور مستجيبةً إلى المؤثرات وتجارب الحياة دائماً (1).
المصادر:
1. cherry k. The Psychology of Personality Formation [Internet]. verywellmind. [cited 24 June 2020]. Available from:
هنا
2. Personality: Where Does it Come From and How Does it Work? [Internet]. apa. 2018 [cited 24 June 2020]. Available from:
هنا
3. Fletcher J, Schurer S. Origins of adulthood personality: The role of adverse childhood experiences [Internet]. ncbi.nlm.nih. 2017 [cited 24 June 2020]. Available from:
هنا
4. Childhood personality traits predict adult behavior: We remain recognizably the same person, study suggests [Internet]. sciencedaily. 2010 [cited 24 June 2020]. Available from:
هنا