مُستقبَل الموسيقا الكلاسيكية: الأسباب
الموسيقا >>>> موسيقا
هذا التصور الذي تبادر إلى ذهنك ما هو إلّا الصورة النمطية في أذهان الناس عن الموسيقا الكلاسيكية.
تواجه الموسيقا الكلاسيكية نقصا عاما وملحوظا في الحماس لدى المراهقين وجيل هذه الألفية تجاهها، إذ تُرجم غياب هذا الاهتمام إلى قلة الحضور لحفلات الموسيقا الكلاسيكية.
مثلاً في الآونة الأخيرة، سبّب انخفاض مستمعي الموسيقا الكلاسيكية إلغاء العروض الصيفية التي تقدمها أوركسترا بالتيمور السيمفونية (BSO)، ممّا أدى إلى خفض الجدول الزمني من 50 أسبوعاً إلى 42، في حين أنه كانت أوركسترا بالتيمور السيمفونية تقدم عروضها مدة 52 أسبوعاً على مدار العام طوال 35 عاماً (2).
فيا ترى ما هو السبب؟
هناك عدة أسباب جعلت الموسيقا الكلاسيكية بعيدة عن عامة الناس:
1- الأشخاص لا يتناقشون بالموسيقا الكلاسيكية كما اعتادوا أن يفعلوا من قبل:
للموسيقا الكلاسيكية القدرة على إثارة جدالات ومناقشات واسعة النطاق، مثلما تفعل الموسيقا الحديثة اليوم؛ إذ كانت هي النمط السائد في زمنها، فمن الطبيعي أن يتحاور الناس بما يميز العصر الذي ينتمون إليه، لذلك عندما كانت الموسيقا الكلاسيكية هي الموسيقا المعاصرة كان الناس يستمتعون جداً بمناقشة قوالب الموسيقا ومعانيها وكان من الشائع جداً مناقشة أسلوب المؤلف، حتى كانوا يتساءلون كيف ستبدو قطعته الموسيقية القادمة!
إضافة إلى ذلك، عندما كانت تتاح فرصة لشخص ما لسماع الموسيقا الكلاسيكية، كانت تجري فقط بواسطة العروض الحية. ونظراً لأن الفرصة كانت عابرة، يشعر الناس بأن عليهم الاستمتاع والإصغاء باهتمام من أجل فهم المعنى. وكان عليهم أن يحفظو ما سمعوا، ليتمكنوا من مناقشته مع الآخرين.
بعكس الموسيقا المعاصرة حالياً المتوافرة بسهولة، يفصلنا عنها كبسة زِر فقط.
فليس على المستمع حقًا أن يصغي ويحفظ ما سمع، مما شجع على نشوء نمط مختلف تماماً من الإصغاء يمكننا أن نعده "إصغاءً كسولًا" (1).
2- الناس لا يعرفون كيف يستمعون للموسيقا الكلاسيكية، ويترددون كذلك في تعلمها، ولا يعتقد الكثيرون أنها تستطيع
إضافة أي قيمة إلى حياة الإنسان العصري! :
على نحو عام، الناس لا يريدون الموسيقا أن تكون شيئا يتطلب الجهد، فهم يفترضون أنهم قادرون على الإصغاء إلى الموسيقا بمجرد امتلاكهم حاسة السمع. لكن في الواقع إن امتلاك الشخص حاسة النظر لا يعني أنه يستطيع أن يقرأ، وبمجرد أن الشخص يقرأ لا يعني أنه يستطيع أن يفهم كتابات أرسطو مثلًا.
إذا كان لدى المرء عقل منفتح والقدرة على التفكير على نحو نقدي، فتعلّمه الموسيقا يكون بمثابة توسيع لآفاق تفكيره مُعززًا قدرته على فهم ما يسمع.
فيقول Charles Hughes " المتطلب الأول لسماع الموسيقا تقديرها، الثاني استسلامك لها".
فلا يمكن للمرء بالتأكيد الاستمتاع بالموسيقا الكلاسيكية إذا كان المستمع متحيّزًا، عادًّا لها مسبقًا أنها خالية من أي قيمة (1).
3- النظرة النخبوية للموسيقا الكلاسيكية على أنها زائدة الحشو وقديمة الطراز:
على الأغلب أن تكون المشكلة الأكبر التي تواجه الموسيقا الكلاسيكية اليوم هي الرأي العام بها(1)، وأغاني القرن التاسع عشر هي مثال جيد على ذلك، فقد قُسمت إلى قسمين: الموسيقا الشعبية والموسيقا الجادة.
الموسيقا الشعبية مصممة لسوق الهواة من الطبقة المتوسطة، وتتضمن الأغاني الشعبية والأغاني المصممة لتسلية الطبقات الأدنى أو الأفقر.
أما الموسيقا الجدية فصممت للخبراء خاصة، الذين كانوا أقل عدداً من الهواة.
إذا وضعنا هذه الفكرة بسياق اليوم، فالموسيقا الكلاسيكية هي الموسيقا الجدية، وكل نوع موسيقا آخر (روك، بوب ..) هي الموسيقا الشعبية.
هذا التقسيم سبب مشكلة أخرى، وهي تقسيم الحالة الاجتماعية ضمن الطبقات الوسطى (3). فغالبًا ما يُنظر إلى الموسيقا الكلاسيكية على أنها نشاط برجوازي لا علاقة له بأغلبية الناس والمشكلة في هذا الاعتقاد أن جميع الناس يمكنهم بالفعل التعلق بموسيقا الفن الغربي وإيجاد قيمة لها.
أدت وصمة العار المحيطة بالموسيقا الكلاسيكية والفكرة النمطية إزائها، إلى خوف الناس من تعلمها كي لا تنطبق عليهم هذه الأفكار السائدة!
فمن الصحيح أن الموسيقا كانت حكراً على الطبقة العليا فقط، ولكن لا يجب أن تكون بهذه الطريقة بعد الآن.
ولأن الموسيقا الكلاسيكية لا تُفهم بسهولة (تتطلب الاهتمام والتفكير) يفترض الناس عادةً أنها حصرية. من ناحية أخرى فإن الموسيقا الشعبية متاحة على نطاق واسع وسهلة الفهم؛ إذ توضح كلمات الأغنية عموماً كل ما يجب على المرء فهمه (1).
4- تواجه الموسيقا الكلاسيكية مشاكل في النظام التعليمي، إضافة إلى نمط الحياة الحديث:
في كثير من الأحيان عندما تُخفّض ميزانيات المدارس، تكون برامج الموسيقا والفنون هي أول من يذهب مع الريح. كثير من الطلاب لديهم مادة مفضلة، ولكن فقط لأن برامج الموسيقا ممتعة وليست برامج علمية لا يقلل ذلك من استحقاقها وأهميتها!
علاوة على ذلك، أثبتت الدراسات العلمية بالفعل الفوائد التعليمية والمعرفية لمادة التربية الموسيقية.
تُظهر الإحصائيات أن العديد من الأشخاص الذين يتخذون القرارات بشأن البرامج التي يجب قطعها (أي المشرفين ومجالس المدارس) لم يحظوا بتعليم موسيقي، وبذلك هم لا يستطيعون أن يقدروا ما يمكن أن يجلبه التعليم الموسيقي إلى حياة الطفل، فهم يرون أنها ممتعة، ولكنها ليست بالضرورة قيّمة أو ضرورية لمتابعتها.
كذلك نلاحظ افتقارها لدعم واضح ضمن النظام التعليمي، فإن الاستمتاع بالموسيقا الكلاسيكية يواجه عقبات بسبب نمط الحياة الحديث كما ذكرنا سابقاً. فمحيطنا سريع الحركة والمليء بالتحفيز والحركة المستمرة، يجعل من الجلوس بهدوء والاستماع للموسيقا أمر صعب للغاية.
قال Daniel Asia "في حين كان على الناس في الأجيال السابقة البحث عن الموسيقا، يتعين على المرء الآن أن يبحث عن الصمت وأحيانًا يطلبه".
وهذا ما نعاني منه فعلا.
هناك الكثير من الخيارات والمشتتات التي تحيط دائماً بالشخص العادي، إذ أصبحت مدة انتباهنا قصيرة جداً للجلوس والتركيز على الاستماع. يبدو أن إعجابنا الشديد بالموسيقا الشعبية يرجع جزئياً إلى حقيقة أن المقطوعات قصيرة جداً وسهلة الاستيعاب، في حين أن الموسيقا الكلاسيكية تتطلب الكثير من اهتمامنا وتفكيرنا النقدي (1).
5- ومن المشاكل التي تواجهها الموسيقا الكلاسيكية أيضاً أنه كان من الممنوع على الجمهور أن يعبر عن تقديره على نحو عفوي:
التصفيق كان محصورا بأماكن محددة، فأماكن العروض كانت تتطلب صمتا زائدا، وسيطرة زائدة على الجو العام.
يظن Theodore Thomas، أن الأمسيات عبارة عن "استجمام متزايد للذهن، وهو غير مسلي"
هذا السلوك أثر أيضاً في تعليم الموسيقا، فدروس الموسيقا للأطفال لم تكن بهدف تشجيع الإبداع أو للمتعة، بل كانت من أجل تعليم الانضباط.
كلمة "هاوٍ" تغير معناها من "مُحب للموسيقا" لتصبح عبارة عن مصطلح يعبر عن الازدراء والسخرية!
صناعة الموسيقا من أجل المتعة لا تكفي اليوم، مما أدى إلى نقص الهواة الذين يصنعون الموسيقا بهدف الاستمتاع، وذلك كان له بُعد سلبي على الموسيقا الكلاسيكية(3).
6- الموسيقا الشعبية هي تجارة كبيرة ومال كثير، في حين أن الموسيقا الكلاسيكية ليست كذلك:
السبب الأخير الذي يساعد في تفسير تراجع شعبية موسيقا الفن الغربي هو أن صناعة الموسيقا الشعبية تُستثمر فيها الأموال أكثر بكثير من صناعة الموسيقا الكلاسيكية.
في الأساس، تُنتَج الموسيقا الكلاسيكية من أجل القيمة الجمالية، وليس من أجل الربح، لهذا السبب يصعب التنافس مع صناعة الموسيقا الشعبية، إذ يكون كسب المال هو الهدف الأساسي.
في العالم الحديث، لم تعد الموسيقا مجرد فن، فهي أيضاً سلعة يمكن شراؤها وبيعها لمن يدفع السعر الأعلى، تماماً مثل أي سلعة أخرى.
والصور التي تسوقها صناعة الموسيقا الشعبية غالباً ما تغطي على جودة الموسيقا نفسها.
بعد أن عرضنا المشاكل التي تواجه الموسيقا الكلاسيكية في هذا الزمن، سنتطرق إلى بعض الحلول المقترحة عن تحسين العروض وجذب جمهور أكثر للاستماع لهذه الموسيقا الرائعة.
انتظرونا في مقال لاحق.
المصادر: