العظماء الخمسة: موديست موسورغسكي
الموسيقا >>>> عظماء الموسيقا
شكَّلَ موسُّورغسكي مع أليكسندر بورودين، ميلي بَلاكيريف، نيكولاي ريمسكي كورساكوف وسيزار كوي مجموعةَ (الخمسة)، وهي مجموعةٌ من المؤلفينَ الروسيين الذينَ جَمعهُم هدفُ تشكيلِ مدرسةٍ موسيقيةٍ روسيّةٍ وطنيةٍ تَختصّ بالموسيقا الروسية.
كانَ موسُّورغسكي ابناً لأحدِ مالكي الأراضي بحسبِ سيرةِ حياته التي كتبها عام 1881. تَعَرّفَ موسُّورغسكي على القصصِ الخياليةِ الروسية من خلالِ مُمرِضته، حيثُ كَتبَ " تَآلُفي المُبكّرُ معَ أرواحِ الناس وطريقةِ حياتِهم، شكَّل أولَ وأعظمَ دافعٍ لديّ للارتجالِ الموسيقي". تَكَفّلَتْ والدتُهُ عازفةُ البيانو المميزةُ بدروسهِ الموسيقيةِ الأولى، حيثُ استطاعَ عزفَ بعضِ مقطوعاتِ ليزت البسيطةِ وهوَ في عمرِ السابعة.
في آب 1849، ذهبَ مودست مع والدهِ وأخيهِ إلى مدينةِ سان بطرسبرغ حيثُ دخلَ موسُّورغسكي مدرسةَ بيتر-بول (بطرس وبولس) للتحضيرِ لحياتهِ العسكريّة. وفي نفسِ الوقت وضعَ الوالدُ موسُّورغسكي مع أخيهِ بعُهدةِ أنتون جيركه الذي أصبح فيما بعد من أساتذةِ معهدِ بطرسبرغ الموسيقي دخلَ موسُّورغسكي مدرسةَ الحَرَسِ في عام 1852، وخلالَ سنتهِ الأولى فيها ألَّفَ مقطوعَتَهُ بودبرابورشيك (Porte-Enseigne Polka) التي نشرَها والدهُ على حسابهِ الشخصي. صحيحٌ أنّهُ لم يكنْ من الطّلابِ المُجِدّين، لكنّهُ أظهرَ قَدْراً كبيراً من الذكاءِ والاهتمام.
في عامِ 1856 أصبحَ موسُّورغسكي ملازماً عسكرياً وانضمَ إلى حَرَسِ بريوبراتزينسكي وهم من أكثرِ أفواجِ حرسِ روسيا أرستقراطية، وخلالَ هذه الفترة تَعَرّفَ على العديدِ من الضباطِ المحبينَ للموسيقى. وتَعرّفَ أيضاً على الضابطِ أليكساندر بورودين الذي أصبحَ لاحقاً من المؤلفينَ الروسيينَ المشهورين. كتبَ بورودين عن موسُّورغسكي:
لطالما كانَ هناك شيءٌ صبياني حولَ موسُّورغسكي، إذ كانَ يَظَهرُ تماماً كملازمٍ ثانٍ كما في الكتب...مع لمسةٍ من الغندرةِ التي لا تتجاوزُ حدودَها. لباقتُه وتربيتُهُ الجيدةُ كانتْ مثاليةً لدرجةٍ جعلتْ كلّ النساء يقعنَ في حبه... دُعينا من قِبَلِ رئيسِ الجراحينَ في المشفى إلى العشاء في إحدى الليالي، حيث جلسَ موسُّورغسكي على البيانو وبدأَ بالعزف الساحرِ اللطيفِ مع بعضِ المقاطعِ المؤثرةِ بحركةِ يديه، وراحَ مُستمعُوهُ يُغمغمون "ساحر! لذيذ!".
خلالَ شتاءِ عامِ 1856 قامَ رفيقُ موسُّورغسكي في الفوجِ بتعريفهِ على المؤلفِ الروسيّ ألكسندر دارغوميتشسكي وعائلته. وخلالَ إحدى الحفلات اكتشفَ موسٌّورغسكي موسيقى المؤلّفِ الروسي ميخائيل غلينكا والتي زادتْ ميولَهُ للموسيقا الروسية. في حزيران من عام 1859 بعدَ مُضِيّ ثلاثِ سنين، رأى موسُّورغسكي الكرملين لأوّلِ مرة، وقد اعتُبِرَتْ تجربةً مهمةً في حياته لكونِها أولَ لحظةٍ "فيزيائيةٍ" قامَ بتَبادُلِها مع التاريخِ الروسي.
تعرَّفَ موسُّورغسكي على المؤلفِ الروسيّ بَلاكيريف (معلمِهِ لاحقاً) الذي كانَ صديقاً لدارغوميتشسكي. بدأَ إرثُ العائلةِ بالانخفاضِ منذُ موتِ والدهِ في عام 1853 بسببِ الإدارة السيئةِ ومعَ الإقنان الذي حصلَ عام 1861 اختفى إرثُ العائلةِ تماماً. تَركَ موسُّورغسكي الحياةَ العسكريةَ قبلَ ثلاثِ سنواتٍ من الإقنان وقرّرَ أنْ يُكرِّسَ حياتَهُ للموسيقى. وفي عام 1863 عَمِلَ كموظفٍ حكوميّ في وزارةِ الاتصالات، ولكن بسببِ كلّ ذلك وقعَ موسُّورغسكي في مشاكلَ ماليةٍ واضطرَ إلى أَخْذِ المال من المُرابين.
وَصَلَ موسُّورغسكي إلى مرحلةِ النّضوجِ الفنيّ في عام 1866 بعدَ نشرهِ لمجموعةٍ من الأغاني الرائعةِ التي تتكلمُ عن الناسِ العاديين مثلِ "عزيزتي سافيشنا" "هوباك" التي ألْحَقَ بها مجموعةً أكبرَ في السنةِ التالية. ومن أعمالهِ الكبيرةِ في تلكَ المرحلةِ أيضاً السمفونيةُ الشعريةُ "ليلةٌ على الجبلِ الأصلع" عام 1867. في عام 1868 وصلَ إلى قمةِ فَهْمِهِ التأليفيّ معَ أولِ أغنيةٍ من المجموعةِ غيرِ المكتملة داتسكايا "الحاضنة" وفي أولِ عدّةِ مشاهدَ مِنَ "الزواج" لنيكولاي غوغول.
في عام 1869 بدأَ عملَهُ الأوبراليَ الكبير بوريس غودانوف باستخدامِ نصهِ الأوبراليّ الذي كتبَهُ مُعتمداً على دراما ألكسندر بوشكين. حيث اكتملتْ أوّلُ نسخةٍ في كانونَ الأول 1869، ولكن تمّ رَفضُ العمل من قِبَلِ اللّجْنةِ الاستشاريةِ للمسرحِ الملكي لعدمِ احتواءِ العمل على أيّ دورٍ لمغنيةٍ أوبرا رئيسية (Prima Donna). لهذا السبب قامّ موسُّورغسكي بمراجعةِ عملِهِ بشكلٍ كامل. وفي عامِ 1872 وضعَ اللمساتِ الأخيرةَ على النسخةِ الثانية بعدَ إضافةِ أدوارِ مارينا ورانغوني وبعضِ الأحداثِ الإضافيةِ للأوبرا التي تمَّ إنتاجُها لأولِ مرة في الثامنِ من شباط عام 1873 في سان بطرسبرغ حيثُ لاقتْ نجاحاً باهراً.
ذهبَ موسُّورغسكي للعيشِ معَ أخيهِ بعدَ موتِ والدتهِ في عامِ 1865، ثمّ انتقلَ إلى شقةٍ صغيرةٍ مع المؤلفِ ريمسكي كورساكوف الذي تزوّجَ عام 1872. بعدها عاشَ موسّورغسكي وحيداً وبدأَ بشُربِ الكحولِ بشكلٍ زائد. لكنّ أوبرا "خوفانشينا" قد ملأتْ لهُ وقتَهُ بعضَ الشيء (توفيَ قبلَ إنهائهِ لها حيثُ قامَ ريمسكي كورساكوف بإنهائِها). بعد فترة عَثرَ موسُّورغسكي على مرافقٍ له وهو إحدى أقرباءِ العائلة أرسني غولينيشيف-كوتزوف. كانَ أرسني شاعراً وقد ألهمَ موسُّورغسكي لتأليفِ حلقتينِ مِنّ الألحانِ الحزينة بيز سولنتسا (عديم الشمس) و(أغاني ورقصات الموت) وقد كانَ موسُّورغسكي يُفكّرُ في الموتِ في ذلك الوقت. إنّ موتَ الرسامِ فيكتور هارتمان والذي كانَ أحدَ أصدقائهِ أوحى إليهِ بتأليفِ مقطوعةِ البيانو (لوحاتٌ من معرض، والتي حوّلَها موريس رافيل عامَ 1922 إلى نسخةٍ للأوركسترا).
كانتْ سنواتُ موسُّورغسكي الأخيرةُ مليئةً بالوحدةِ والكحول وخاصةً بعد زواجِ قريبهِ وصديقهِ غولينيشيف-كوتزوف. ومع ذلك بدأَ موسُّورغسكي بأوبرتهِ (معرضُ سوروتشينتسي، أوبرا غيرُ منتهية) والتي استوحاها من قصةٍ للكاتب غوغول. بعدَ ذلكَ قامَ موسُّورغسكي بجولةٍ موسيقيةٍ كعازفِ بيانو مرافقٍ للمغنيةِ داريا ليونوفا في مُدُنِ جَنوبِ روسيا وشبهِ جزيرةِ القِرْم، وبعدَ عودتِهِ من الجولةِ الموسيقية حاولَ تدريسَ الموسيقى في مدرسةٍ صغيرةٍ في سان بطرسبرغ.
في الرابعِ والعشرينَ من شباط عام 1881، عانى من ثلاثِ نوباتٍ متتاليةٍ مِنَ الصّرَع بسببِ الكحولِ الزائد، ونقلَهُ أصدقاؤُه إلى المشفى حيث تحسنتْ صحّتُهُ بشكلٍ كافٍ ليقومَ صديقهُ الرسامُ إيليا ريبين برسمِ لوحةٍ له. لكنّ صحتَهُ تراجعتْ بعدَ ذلكَ بشدة وتوفيَ بعدَ فترةٍ قصيرة من عيدِ ميلادهِ الثاني والأربعين.
بعد مدةٍ قصيرةٍ من موتِ موسُّورغسكي نشرَ ريمسكي كورساكوف أعمالَه، وقامَ بتطهرِ هذه الأعمال منَ الأقسامِ التي اعتبرَها ضعيفةً موسيقياً وتوافقياً. وقامَ ريمسكي كورساكوف بإنتاجِ أوبرا بوريس غودونوف عدةَ مرات، ومن عامِ 1908 عندما عَرَضَها في دار أوبرا باريس بدأَ الجمهورُ بطَلَبِ النسخةِ الأصليةِ المنشورةِ في عام 1928 بعدَ تعديلٍ من قِبَلِ بول لام، حيثُ يظهرُ في النسخةِ الأصليةِ التوزيعُ الأصليُّ الذي قامَ به موسُّورغسكي.
هذا هو المؤلفُ الروسيّ موسُّورغسكي الذّي عاشَ في راحةٍ ورخاء قَبلَ موتِ والده، ليعاني من قسوةِ الحياةِ وصعوبتِها بعدَ الحادثة. خوضُهُ لغِمَارِ الحياةِ العسكرية وتأثرُه بأصدقائِه وأقربائِه وكلُّ ما مرّ به في حياتهِ من ظروفٍ وأحداثٍ متنوّعةٍ تمازجَتْ لتُظْهِرَ للعالم هذا الفنانَ المميزَ صاحبَ البصمةِ الساحرةِ واللذيذة.
البعض من مقطوعاته:
المصدر:
هنا