مراجعة رواية (الياطر): الإنسان الكامن في الوحش
كتاب >>>> روايات ومقالات
ويعرض مينا في رواية (الياطر) قصة زكريا، وهو صياد متزوج وله ولدٌ، وكان يعشق حياة الملذات والمجون، فهو يصيد في النهار ويعمل كالثور في الميناء، ثمَّ ينصرف إلى تبذير ما يجنيه في الخمارة فيشرب إلى أن ينطفئ، ويمضي ليلته بين أحضان بنات الليل، ويعود إلى المنزل مُحملًا في العربة تفوح منه رائحة زنخ السمك والكحول والقذارات.
وقد حاولت زوجته (صالحة) أن تصلح من شأنه كثيرًا، فتدعوه إلى استعمال الصابون والاغتسال يوميًّا، وتعرض عليه أن يسهر معها في المنزل ويشرب ما يريد من العرق في محاولة منها لإبعاده عن الخمَّارة، ولكنَّه لم يحبذ أن يشرب بكؤوس نظيفة ومائدة مرتبة ويمارس الجنس معها وكأنَّه واجبٌ فيما بعد، فقد اعتاد حياة العربدة وألِفها.
تبدأ الرواية عندما يهاجم الحوت الميناء ويهرب كثيرٌ من الناس من مواجهة ملك البحر، أما زكريا فيهرع بالحبال ليتمكن من ربط الحوت وتثبيته ومن ثمَّ قتله. وبعد انتهاء المعركة على الشاطئ يُعدُّ زكريا حفل شواء كبد الحوت، ويسرف في الشرب فيستغل بعض السفهاء حالة سُكره ونشوته تلك ويكذبون بقصد الدعابة عن كنز في بطن الحوت كان قد سرقه صديق زكريا صاحب الخمَّارة (زخريادس)، فتثور ثائرة زكريا ويذهب كالمجنون إلى الخمارة ليحاجج زخريادس ويمسك بساطور البسطرمة ويرديه قتيلًا. ويصحو زكريا من فعلته حائرًا في أمره، فهو لم يقصد قتل صديقه ولكنَّهم خدعوه وهو غائب العقل، فلا يجد أمامه بُدًّا من الهرب؛ فهو لن يدعهم يودعونه السجن ومن ثمَّ تكون نهايته على حبل المشنقة.
يقدِّم الكاتب روايته بأسلوب فلسفي متميز، فهو يناقش فكرة تحوُّل زكريا من الوحش الذي كان إلى الإنسان الذي يصبح عليه، وذلك بعد توحُّده على شاطئ البحر إثر هروبه، فينعزل ويتفكر في البحر أمامه والغابة خلفه، فتقطع عليه عزلته راعية أبقار القرية (شكيبة)؛ تلك الريفية التي تكون سببًا مباشرًا في تحوُّل زكريا، فقد كان زكريا ينظر إلى المرأة نظرة دونية وكأنَّه يرى كائنًا لا يرقى أن يكون إنسانًا، فهو لم يكن يراها سوى وسيلة للجنس لا أكثر، ولا عقل لها؛ ولذا، فهي لا تفهم ولا تفكر حتى، ولكنَّ شكيبة تلك كانت نمرةً خرجت من الغابة لتلقِّن زكريا درسًا في الإنسانية والحب والحياة.
" لعلها الأولى في حياتي، التي تحظى باعتبار الإنسانة مني، وتنتزع المودة من ضعفي من شعوري بأني مدين لها بوجودها قربي."
ويُصاب زكريا بالحمى بسبب جروح أصابته بعد عراكه مع كلب هاجمه، فيعاني من الهلوسة وشرور الأفكار والمخاوف التي تلاحقه ومن جرحٍ تقيَّح في ركبته، فيهيم على وجهه في الغابة مترنحًا بين رأسه الذي يكاد يذوب وآلامه التي يكون أصعبها تخلي شكيبة عنه، وكأنَّ ما يعيشه فصلٌ من فصول جحيم دانتي عندما يصل إلى مرحلة المطهر، ليقتلع الشر القابع في نفسه ويتطهَّر بالألم والعذاب فيصبح إنسانًا بحق.
وخلال تحوله ذاك يعترف زكريا بامتلاكه قلبًا بدأ يدق طربًا وعشقًا وولهًا باسم محبوبته شكيبة.
" تبينت في وحشة الليل أن شكيبة لم تكن حاجة جنس، ولا رفيقة وحدة، ولا سمكة قيمتها في اصطيادها، قد تكون كل ذلك ولكنها أكثر أيضا، كانت حبيبة من الصعب هجرها."
ومع التطور النفسي الذي يلحق زكريا تزداد أخطاؤه في تعامله مع شكيبة؛ نظرًا لقلة معرفته في التعامل مع النساء في غير أمور الجنس، فيستشعر تلك التغييرات التي طرأت عليه، ويبدأ بإعمال عقله والتفكير، وهو الذي كان مقتنعًا بأنَّه حمارٌ ليس له عقلٌ ولا كبدٌ يتأثر بكمية الكحول الكبيرة التي يشربها كل يوم، ولكنَّه انقطع عن الكحول منذ أن وطئت قدمه ذلك الشاطئ وتلك الغابة فأزال الغشاوة عن عقله وقلبه وهدأت روحه وانتظمت دقات قلبه بتواتر عذب، وصار ينظر إلى العالم بعينين جديدتين، ويبدأ بالتخطيط للمستقبل القريب ويجهد لتخطي الماضي وتقبُّل ما جرى، ولكنَّ الكاتب يترك النهاية على نحوٍ يدعو إلى التفكُّر، فهل يمكن للصياد أن يهوى غير البحر؟
رأي معد المقال:
يستخدم الكاتب لغة سهلة وبسيطة، فهو لا يعتمد في طرحه الفلسفي أمثلةً او شروحات او تشابيه معقدة. وهو يستخدم أيضًا بعض الكلمات من اللهجة المحلية التي لا تبخس من شأن الرواية بل على العكس، فاستخدامها يضفي جوًّا دافئا للحكاية، وتجعل القارئ على مسافة أقرب للبيئة التي كُتِبت عنها هذه الرواية.
معلومات الكتاب: