أوروك، قصة المدينة الأولى بعد الطوفان
التاريخ وعلم الآثار >>>> تحقيقات وكشوف أثرية
المدينة الأولى
بحسب ما هو مذكور في قائمة أسماء الملوك السومريين فقد تأسست مدينة أوروك حوالي عام 4500 ق.م على يد الملك "إنمركار Enemerkar" واستمرَّ السكن بالمدينة منذ تأسيسها وحتى عام 300 بعد الميلاد عندما هُجرت بسبب ظروف طبيعية وبشرية، ولم تُكتشف من جديد إلّا في عام 1853 م عندما بدأ (ويليام لوفتس William Loftus) تنقيباته الأثرية في المدينة لصالح المتحف البريطاني..
كانت (أوروك) من أهم المدن في منطقة الرافدين، ظهرت الكتابة أوّل مرّة في هذه المدينة، وفيها اُخترعت الأختام الأسطوانية، واستُعملت كتوقيع شخصي أو كدليل على الملكية، بل إنّ أوّل الأمثلة على الأعمال الهندسية التي اُستخدمت فيها الحجارة قد انطلقت منها، ومنها انتشرت الزقورات الشهيرة التي تميّزت بها بلاد الرافدين، واشتهرت أوروك أيضًا بملكها جلجامش وملحمته الشهيرة "ملحمة جلجامش" التي بحث فيها عن الخلود.
زيقورة أنو في أوروك
Image: cc by sa 2.0
بناءً على المستويات الأثرية للمدينة وعلى تأريخ القطع الأثرية المستخرجة منها قسمت فترة "حضارة أوروك Uruk Period" إلى 8 مراحل من الأقدم مرورًا بفترة ازدهارها وصولًا إلى فترة انحدارها. وكانت المدينة الأكثر نفوذًا في بلاد النهرين في الفترة بين 4100 - 3000 قبل الميلاد؛ إذ كانت أكبر مركز عمراني ومركزًا للتجارة والإدارة (1).
قُسمت مدينة أوروك إلى منطقتين: منطقة (إيانا) ومنطقة (آنو) وقد اُطلق عليهما هذان الاسمان نسبة لـ "إيانا Inanna" إلهة المدينة وجدّها الإله "آنو Anu"، وقد توسّطت منطقة إيانا المدينة وضمّت مجمّعًا دينيًّا ضخمًا وكانت معزولة بجدار عن بقيّة المدينة، وليس واضحًا اليوم إذا كان هذا العزل لأغراض دينية أم لأسباب إنشائية، وتوسّطها أيضًا المركز التجاري الذي ضمّ المستودعات والورشات والمراكز الإدارية الأُخرى (1,2).
تُعدُّ أوروك اليوم من الأماكن التي يرجّح جدًّا أنّ التمدن قد بدأ منها؛ ففيها نجد أقدم مثال متوفّر على عملية التمدّن، إذ سجلّت أوروك أوّل ظهور لمجتمع عمراني معقّد أو دولة مبنية على الطبقية والتخصص الوظيفي بعد فترة طويلة من بداية العصر الحجري الحديث في الشرق الأدنى، والذي امتدّ من الألفية التاسعة إلى الألفية الرابعة قبل الميلاد، وسجّلت آخر مراحل هذه الثقافة (3200-3000 قبل الميلاد) ذروة هذه العملية التطورية، فكانت الثورة العمرانية (2).
"الثورة العمرانية Urban revolution"
تحدّث عالم الآثار "غوردون تشايلد Gordon Child" في كتابه "Man Makes Himself" عن عملية نشوء المدن، ودعاها بالثورة العمرانية، وقد فرّق تشايلد بين أنماط الحياة والسكن التي كانت سائدة في العصر الحجري الحديث والعصر النحاسي والتي اعتمدت على الصيد والالتقاط، وحتى الزراعة وتربية الماشية والتحول الكبير الذي طرأ عليها حوالي عام 3000 ق.م، والذي وصل إلينا من تغيّر الأدلة الاثرية المستخرجة من الأرض.
لا تكمن أهمية اللُقى الأثرية المُستخرجة من الأرض بجمالها ومهارة صنّاعها فقط، بل بما تحمله في جوفها من قصص ترويها عن زمانها، فحوالي عام 3000 قبل الميلاد في أوروك لم تعد اللُقى الأثرية مقتصرة على أدوات الزراعة والصيد وغيرها... ولم تعد مجرّد منتجات بسيطة محلية الصنع، بل تحوّلت لأثاث معابد وقصور وأسلحة وأواني فخارية مصنّعة على الدولاب ومجوهرات وغيرها من المنتجات التي صنعت بوساطة حرفيين مهرة، وبدلًا من الأكواخ أصبحنا نجد المدافن الجنائزية والمعابد والقصور وورش العمل التي وُجدت فيها العديد من المواد المستوردة من مناطق أُخرى.
يدلُّ هذا التحوّل في القطع الأثرية المستخرجة على تحوّل جوهري في الاقتصاد والذي ترافق مع ازدياد كبير بعدد السكان (3).
لكن كيف حدث هذا التحول؟
عُرِف العراق باسم بلاد ما بين النهرين؛ لوجود نهري دجلة والفرات فيه، وقد كان هذان النهران العامل الطبيعي الأساسي الذي ساهم ببداية تحضّر هذه المنطقة، فقد ساهمت تعرّجات النهرين وفيضاناتها الموسمية بتشكيل الأهوار والأراضي، ووفّرت هذه الأراضي بمجرد جفافها محاصيل وفيرة وشبكة من العلاقات الاقتصادية عززتها الأنهار والمساحات الكبيرة، والتي سهّلت بمجموعها عملية تطور القرى إلى تجمعات بشرية أكبر.
ساهم توفّر المياه -التي اُستخدمت في أغراض الزراعة والنقل- وتطوير نظام إدارتها من تقنيات وهياكل مؤسساتية، إضافةً إلى الابتكارات الزراعيّة كالمحراث في تعزيز عملية تطور التجمعات البشرية، وقد سهّل توفّر وسائل النقل عملية نقل فائض الإنتاج من التجمعات القروية إلى المستودعات التي استحدثت في المدن، وعليه أصبح لدينا ثلاثة تصنيفات للتجمعات البشرية، القرى التي اتّصفت بصغر حجمها ومورست فيها الأنشطة الزراعية والرعوية، والمدن وهي تجمعات عمرانية مركزية كبيرة مورست فيها الأنشطة التحويلية للمواد الخام والتجارة وتقديم الخدمات، والمراكز العمرانية الوسيطة التي مورست فيها أيضًا أنشطة إدارية وحرفية بعيدًا عن المدينة المركزية.
تزامنت عملية التحضّر مع نمو سكاني سريع أتى أساسًا نتيجة تحسين عملية إنتاج الغذاء، وقد أدّى ازدهار تجمع عمراني ما إلى هجرة السكان للمناطق المحيطة به، فقد شهدت الفترة المبكرة (3500-3200 قبل الميلاد) لمدينة أوروك -التي بلغت مساحتها 70 هكتارًا- تركّز الكثافة السكانية ضمن أسوارها مع اضمحلال القرى المحيطة بها مباشرة، أمّا الفترة المتأخّرة (3400-3000 قبل الميلاد) فقد شهدت هجرة سكان القرى الشمالية إلى أوروك وتوسّعت مساحتها إلى 100 هكتار (4).
من الجودة إلى الكمية
مع أنّ ظهور المدن قد تزامن مع ازدياد عدد السكان، ولكن لم يحدث نقصًا في الموارد؛ إذ ساهم ازدياد رقعة الأراضي الزراعية والتطور التقني بزيادة الإنتاج، وبالتالي حدوث فائض فيه، وقد دفع ازدياد مقياس التفاعلات والتبادلات التجارية بين السكان إلى إيجاد أنظمة جديدة للعدّ والقياس لإعطاء السلع والرواتب قيمًا محددة.
لتسهيل عمليات التبادل التجاري، اُختيرت سلع معيّنة كوحدات معيارية للقيمة، فبدلًا من حفظ قيمة كل سلعة مقارنة بغيرها، اُختيرت سلع معيّنة كوحدات ثابتة للقيمة مثل الشعير والفضة (وأحيانًا النحاس) دون الحاجة دومًا إلى أن تكون موجودة في أثناء عملية التبادل.
هذا التغيّر في عملية التبادل أدّى إلى تغيير جذري في النظام الاقتصادي، فقد ظهرت فكرة الرواتب الثابتة للعمال المتخصصين، فكان الخزاف المتخصص بصناعة الفخار مثلًا يتقاضى أجرًا شهريًّا ثابتًا، لكن كان من الصعب جدًّا التحقق ممَّا إذا كان يعمل بالفعل وحجم ذلك العمل، ولمعالجة هذه المشكلة، ألزمته الإدارة المركزية بعدد محدد من الأواني التي كان عليه إنتاجها خلال فترة زمنية معينة، وهو ما عنى الاتجاه إلى عملية إنتاج موحّد وكبير. لبّى هذا النوع من الإنتاج رغبات الإدارة والمستهلكين بأكثر الطرق أمانًا وسرعة (4).
ولادة الكتابة
استخدم التجار في عملية التجارة بعيدة المدى الأختام لضمان عدم الغش وعدم سرقة بضاعتهم كعلامة مسجّلة للمنتج تثبت أصالته، فكانت بمثابة التوقيع، وبالفعل اُستخدمت هذه الأختام على نطاق واسع جنوب بلاد الرافدين وكانت أختامًا مربّعة أو مستديرة عليها دمغات تمثّل صورًا هندسية أو حيوانيّة، كانت هذه الأختام توضع على قطع طينية تحتوي على عدد معين من الرموز تمثّل كمية البضاعة، ومع بزوغ فجر أوروك، اُدخلت ابتكارات مهمّة على شكلها وزخرفتها واستعمالاتها، فاستُخدمت الأختام الأسطوانية عوضًا عن أختام الدمغ التقليدية، وكانت مساحة الطبعات والتعابير الناتجة عن هذه الأختام أكبر، وذلك عن طريق لف الختم على الطين الرطب، ممّا أتاح زيادة المعلومات التي توضح ماهية المنتجات الموجودة في الحاوية المختومة، وتغيّرت أيضًا المشاهد المستخدمة فيها لتمثل مشاهد مميزة للمجتمعات العمرانية المبكرة، مثل، الأنشطة الزراعية وصناعة النسيج والفخار ووسائط النقل والعروض الدينية وحتى الحروب.
اُستخدمت أيضًا "الأختام الطينية Clay bulla" للمحافظة على إغلاق مستوعبات البضائع والمستودعات؛ إذ كانت تسد فتحاتها بوساطة حبل مثبت فيها، وزُوِّدت هذه الأختام بنقوش تفسّر دلالاتها، سرعان ما تطورت إلى نظام أكثر عملية، وأصبحت تُستخدم وسيلةَ تواصل شبيهة برسالة مرمزة، فيكفي على سبيل المثال إرسال مستوعب فارغ مغلق بأحد هذه الأختام المزوّد برمز للشعير وبالكمية المطلوبة منه، ليفهم المستقبل ببساطة تلك الرسالة.
"ختم طيني Clay bulla" من فترة أوروك موجود في متحف اللوفر-باريس.
Image: Marie-Lan Nguyen
أمّا الخطوة الحاسمة فأتت مع استبدال نظام الرموز بالرسومات، وقد تنوّعت دلالات تلك الرسومات وهو ما شكّل ولادة عملية الكتابة (مثلًا لم تعد الصورة المرسومة تشير مباشرة إلى الشيء الذي تمثّله، ولكن إلى كلمة أُخرى لها نفس اللفظ، كرسمة السهم التي اُستعملت للإشارة إلى مفهوم "الحياة" نظرًا لأنّ لفظ كلا الكلمتين كان "تي" باللغة السومرية) (4).
كيف حافظت المدينة الأولى على تنظيمها؟
كانت المدينة الأولى قائمة على فكرة أساسية وهي التمايز في المستويات الاجتماعية، فكيف تقبّل المجتمع فكرة الطبقية؟ في الواقع، كان هذا التمييز واضحًا ويصعب قبوله. لذلك، أصبح من الضروري تطوير بعض الدوافع الأيديولوجية لإقناع الأشخاص الذين يؤدون المهام الصعبة أنّ للتفاوت الاجتماعي دور رئيس في التنمية الشاملة للدولة.
هكذا كان على الطبقة الحاكمة العمل على محورين (إداري وعقائدي)، ممّا أدّى إلى ظهور البيروقراطية والكهنوت. أخذت البيروقراطية، التي يديرها الكتبة والمقسّمة هرميًا رعاية الإدارة الاقتصادية للدولة المدنية. وأدارت وسجّلت حركة فائض الإنتاج من القرى إلى المدينة، وكانت مسؤولة عن التجارة بعيدة المدى وعن عملية إعادة توزيع الموارد على العمال وإدارة أراضي الدولة وبناها التحتية، وكانت مسؤولة أيضًا عن إعطاء الأوامر للعمال المتخصصين.
أمّا الكهنة فقد أخذوا على عاتقهم رعاية الأنشطة الدينية اليومية والخاصة للشعب، وكذلك المهرجانات العامة. وأداروا علاقتهم مع الآلهة التي قدّمت المبرر الأيديولوجي للتقسيم الطبقي غير المتكافئ للمجتمع، وقُدّمت القرابين والتضحيات لإرضاء تلك الآلهة.
نجحت هذه العملية! فقد تخلّى المجتمع عن جزء من منتجاته -في الواقع أفضل جزء منه؛ أي بواكير الثمار- إلى الآلهة. وبالمثل، فقد تنازل المجتمع عن جزء من إنتاجه للطبقة الحاكمة بهدف ضمان تنظيم ناجح للدولة.
أمّا المحور الثالث الذي كان أساسيًّا لاستقرار الدولة فهو استخدام واحتكار قوّات دفاعية لحماية التماسك الداخلي؛ إذ كان لا بدّ من حماية الثروة والمعرفة التقنية المتراكمة في المدن من الهجمات الخارجية، ثمّ تحوّل هذا النظام الدفاعي إلى تكتيك هجومي، بهدف الحصول على مزيد من المنتجات والقوى العاملة والسيطرة على أراضي تنتمي إلى دول المدن الأُخرى والمجتمعات المهمّشة (4).
الأزمات والهوية
لم يدم انتشار ثقافة أوروك ونظام الهيمنة المركزية طويلًا، وبنفس السرعة التي نهضت بها هذه التجمعات النشطة تجاريًّا، انهارت! من الصعب تحديد السبب الأساسي لهذا الانهيار، هل كان بسبب عدم تمكن أوروك من الحفاظ على شبكتها التجارية؟ أو بسبب رفض المجتمعات المحلية لثقافة أوروك؟ أو حتى بسبب ثورات حصلت ربما في إحدى المناطق المهمّشة؟
لا توجد إجابة عن هذا السؤال بعد، ببساطة انهارت الثورة العمرانية الأولى تاركة إرثها الفنيّ والحضاريّ في بلاد ما بين النهرين، هكذا تراجعت أولى المدن مخلّفةً ورائها قرى مشتتة لا تتبع أي إدارة أو تنظيم مثلما بدأت تمامًا.
المصادر:
2. Liverani M, Bahrani Z (Translator), Van De Mieroop M (Translator). Uruk. London: Equinox Pub.; 2006. 97p.
3. Childe V. Man makes himself. 3rd ed. New York: The New American Library of World Literature; 1951. 619p.
4. Liverani M, Tabatabai S (Translator). The ancient Near East. London & New York: Routledge; 2014. 619p.