جهاز الأطفال المناعي يتحدّى فيروس كورونا
البيولوجيا والتطوّر >>>> علم المناعة
يُعدُّ الجهاز المناعي شديد التعقيد، إذ يَضم عديداً من الخلايا التي تنتمي إلى أقسام مختلفة وتؤدي وظائف متنوعة. لكنَّ وظيفته الأساسية هي حماية الجسم من الأخماج عن طريق تعرّفه على الخلايا المريضة (1). ومع ظهور العوامل الممرضة المتنوعة، ازداد الاهتمام بدراسة الجهاز المناعي وفهم آلياته المختلفة في محاولةٍ لدعمه وكذلك محاكاة الأساليب التي يستخدمها والاستفادة منها في التطبيقات الطبية.
تختلف فعالية ونوعية الخلايا التي تدخل في تركيب جهاز المناعة لدى الأطفال عن البالغين، إذ يمر بمراحل تطوّرٍ متنوعة تساهم في تقويته وزيادة نوعية الاستجابة مع نمو الطفل (2). ولكن، في بعض الأحيان تتفوق أساليب جهاز الأطفال المناعي على آليات استجابته لدى البالغين -مثلما رأينا في حالة الإصابة بفيروس كورونا المستجد- إذ تُشير التقارير المختلفة إلى انخفاض نسب إصابة الأطفال بالفيروس، وفي حالة الإصابة فإن الأعراض تكون إمّا متوسطة أو غير موجودة. إضافةً إلى ذلك، فإن نتيجة اختبار الكشف عن فيروس كورونا المستجد تكون سلبيةً لدى بعض الأطفال الذين أظهروا أعراضاً تشير لإصابتهم إضافةً إلى تطويرهم لأضداد* antibodies ضد الفيروس (3)، فما هو السر وراء ذلك؟
في البداية، لا بدَّ أن نُلقي نظرةً سريعة على جهاز الأطفال المناعي، ففي الشهور الأولى بعد الولادة تحمي الأضداد التي يتلقاها الطفل من أمه من العوامل الممرضة التي تعرضت لها الأم سابقًا. وتعدُّ جميع العوامل الممرضة المحيطة بالطفل بعد ولادته جديدةً بالنسبة إليه، لذلك تعمل الأخماج التي يصاب بها الطفل في سنواته الأولى على بناء مخزون الخلايا البائية الذاكرة (المنتجة للأضداد) والخلايا التائية الذاكرة لديه.
هذه الصفات تجعل الطفل أكثر استعدادًا للتعامل مع الفيروسات والجراثيم الجديدة، إذ لديه قسمٌ كبيرٌ من الخلايا المناعية التي ما زالت "ساذجة - Naive" ومستعدة للتعامل مع العوامل الجديدة، في حين تنخفض هذه القدرة لدى البالغين، أو حتى تزول كاملةً لدى الكبار في السن الذين تجاوزت أعمارهم السبعين عامًا (4).
تعددت النظريات التي تحاول تفسير قدرة جهاز الأطفال المناعي على مقاومة فيروس كورونا على نحوٍ أفضل. إذ تتحدث إحدى النظريات عن سرعةٍ في الاستجابة ضد الفيروس فلا تعطيه الوقت الكافي للتكاثر على نحوٍ كبير، فيكون غير قابلٍ للكشف بالفحص الاعتيادي باستخدام تفاعل سلسلي للبوليميراز في الوقت الحقيقي (RT-PCR). وحتى الأطفال الذين عانوا أعراضاً شديدةً من المرض، فإن نسبة من كانت نتائجهم إيجابية لفحص الـ RT-PCR تراوحت ما بين 29 و50% فقط. يعتقد المختصون أن نوعية الأضداد المُتشكِّلة لدى الأطفال لها دور مهمٌ في هذا الصدد. ففي دراسةٍ ضمّت اثنان وثلاثين بالغًا و سبعٍ وأربعين طفلًا (أعمارهم ≤18)، كشف الباحثون أن معظم الأضداد المُنتجَة لدى الأطفال استهدفت بروتين الشوكة الخاص بالفيروس والذي يستخدمه للدخول إلى الخلايا، بينما تنوّعت الأضداد لدى البالغين لتشمل -إضافةً للمذكورة سابقًا- أضدادًا ضدَّ بروتين القفيصة النووي nucleocapsid protein والتي يُشير تَشَكُّلُها إلى انتشار الفيروس في الجسم. كانت الأضداد المذكورة آنفًا غائبةً لدى الأطفال، مما يدل على عدم انتشار الفيروس لديهم على نحوٍ موسع، والذي يشير إلى قدرة الجهاز المناعي لديهم على "القضاء" على الفيروس قبل تَكَاثُرِهِ على نحوٍ كبير(3).
من ناحيةٍ أخرى، تتحدث بعض الدراسات عن دور الجهاز المناعي الفطري** في هذه الاستجابة. إذ يُعتقد أن الأضداد المُنْتَجة هي أضداد طبيعية Natural antibodies غالباً من النوع IgM والتي تُنتج على نحوٍ مستقل عن التعرّض المسبق للعامل الممرض (يمكن تشبيهها بعناصر الشرطة التي تُعنى بالحفاظ على الأمن العام)، فهذه الأضداد غير نوعيةٍ ضدَّ عاملٍ ممرض معين وتتميز بفعاليةٍ واسعة وتنوعٍ بالإلفة (أي قادرةً على الارتباط بمجموعة واسعة من العوامل الممرضة مما يساهم بتعرف الجسم على العامل الممرض وبدء استجابةٍ مناعيةٍ ضده). هذه الأضداد قادرة على مقاومة الفيروس في خلال الأسبوعين الأولين من المرض، لتعطي الجسم وقتًا كافيًا لإنتاج أضدادٍ نوعيّة تُجاه الفيروس. تُنتج الأضداد الطبيعية من قبل خلايا بائية ذاكرة متوفرة بكمياتٍ كبيرةٍ لدى الأطفال بالمقارنة مع البالغين (4).
في دراسةٍ أخرى، يعتقد الباحثون أن انخفاض كثافة المستقبِل ACE2 (الذي يستخدمه الفيروس للدخول إلى الخلايا) في أنف الطفل بالمقارنة مع البالغ يمكن أن يكون له دورٌ في انخفاض جرعة الفيروس الداخلة إلى جسم الطفل، وبالتالي يقلل من حدة الإصابة (3).
في الختام، من الصعب تحديد السبب المباشر الذي يُساهم في تخفيف حدة الإصابة لدى الأطفال، فمثلما رأينا في هذا المقال، تتعدد العوامل المساهمة ويبقى الأمر محتاجاً إلى المزيد من الدراسة.
هوامش:
*الأضداد: مكوّنٌ بروتيني من مكونات الجهاز المناعي يتواجد في الدم المحيطي ويتعرف على الأجسام الغريبة مثل البكتيريا والفيروسات، ويُعدلها (أي الارتباط بها). بعد التعرض للأجسام الغريبة، مثل المستضدات، تستمر الأضداد بالدوران في الدم وتأمين الحماية الضرورية للجسم ضدَّ التعرض المستقبلي لهذا المستضد (5).
**الجهاز المناعي الفطري: جزءٌ من الجهاز المناعي والذي يضم مجموعةً من الآليات الدفاعية والتي تستجيب مباشرةً لدى التعرض للمستضد (أجسام غريبة) (6).
المصادر: