كيف نفسر ظاهرة الخروج من الجسد على المستوى الدماغي؟
البيولوجيا والتطوّر >>>> علم الأعصاب
كنت مستلقيًا على سريري حين شعرتُ فجأة وبوضوح شديد أني الآن أنظر من سقف الغرفة إلى جسدي المستلقي على السرير، انتابني الهلع للحظات، ثم ما لبثت أعاود الشعور بجسدي على السرير في مكانه الطبيعي، تجربةٌ يصفها بعضُ مرضى، وهي الحالة العصبية المعروفة بظاهرة الخروج من الجسد أو الانفصال عن الواقع (1).
فما هذه الحالة؟ وما أساسها العصبي؟
توصف هذه الحالة العصبية عادةً أنها انفصال الحالة المكانية للجسد والإدراك عن بعضهما، ما يعني رؤية الشخص جسدَه من منظور خارجي لحظةَ حصول هذه الحالة (في حالة الخروج من الجسد أو depersonalization)، أو من خارج المكان المحيط به فيزيائيًّا (في حالة الانفصال عن الواقع derealization). فيزيولوجيًّا؛ تقدّر نسبة الأشخاص الذين يعايشون هذه التجربة مرةً أو مرتين في حياتهم دون أن تكون هناك حالة مرضية عصبية بما يقارب 10% من البشر، لكن لُوحِظ ارتفاع معدلات حصولها لدى مرضى نوب الاختلاج العصبية والشقيقة أو بعد التعرض للصدمات النفسية الشديدة (2,3)، إضافةً إلى إمكانية تحريضها ببعض أصناف الأدوية المهلوسة (الكيتامين والفينسيكليدين PCP والديزوسيلبين) وتدعى الأدوية المحرضة على الانفصال*.
اقترح الباحثون في دراسة جرت بالتعاون بين باحثي قسم الجراحة العصبية وقسم الهندسة الحيوية الكهربائية بجامعة ستانفورد في أمريكا أنَّ الموقع الأساسي في الدماغ المسؤول عن هذه التجربة هو المنطقة المعروفة بالقشرة الحزامية (retrosplenial cortex)، وذلك بعد أن سجلوا كامل النشاط العصبي لدماغ مجموعة من الفئران أُعطيت جرعاتٍ من أدوية مخدرة أو مهدئة أو مهلوسة، ولوحظ أن الأدوية المحرضة على الانفصال فحسْب سبّبت تذبذباتٍ قويةً ذات ترددات منخفضة تراوحت بين 1-3 هرتز في منطقة القشرة الحزامية، في حين تكمل مناطق الدماغ الباقية وظائفَها بنشاطها العصبي ذي الترددات الأعلى 8-12 هرتز، ولم تحفِّز أيًّا من الأدوية الأخرى المهلوسة كالـ(LSD) هذا النشاط المتناغم، ولم يُسَجَّل أيضًا في أي من مناطق الدماغ آنفة الذكر التي ترتبط في الحالة الطبيعية بمنطقة القشرة الحزامية (3).
مما أدى إلى اقتراح أن الأدوية المحرِّضة على الانفصال كالكيتامين تسبب تحريضَ نشاطٍ عصبيٍّ متناغم ذي ترددات منخفضة مميزة تقتصر على منطقة القشرة الحزامية؛ مما يسبب حالة الانفصال الوظيفي هذه مع استمرار الوظائف الحسية الأخرى التي يعتقد أنها آلية دفاعية تطوريّة يتخذها الجسم لحماية الجهاز العصبي في حالة التعرض لصدمة شديدة أو خوف شديد مثلًا (3,4).
فمثلًا لم تُبد الفئران أيَّ علامة خوف أو هروب من أي مصدر الخطر، ولم تحاول الهربَ عندما عُلِّقَت من الذيل، لكنّها أبدت ارتكاسًا طبيعيًّا للألم المحرَّض بطبق ساخن بعد إعطائها جرعة الكيتامين؛ ما يعني أن منعكسات الألم والحس الحراري لم تتوقف مؤقتًا على عكس المنعكسات الدفاعية الأخرى التي تتطلب إدراكًا للبيئة المحيطة (3)، وعلى الرغم من دراسة هذه المنطقة لدى القوارض وتحديد دورها في التعلم والتنقل (navigation) وأن لها ارتباطات متبادلة مع مناطق متعددة ذات وظائف متنوعة من الدماغ (الحُصين والمنطقة المجاورة للحُصين والمهاد الحوفي والقشرة الجدارية)، لكنّ دراستها لدى البشر لا تزال تشكل تحديًا نظرًا لصعوبة عزلها (5).
لاختبار هذا الاستنتاج أُعِيدَت التجرِبة باستخدام فئران عُدِِّلت خلايا القشرة الحزامية فيها لتعبّر عن بروتينَينِ حساسَين للضوء؛ يحرِّض الأول نشاطًا عصبيًّا بالتعرض للضوء الأزرق، ويُثبِّط الآخر النشاطَ العصبي عند التعرض للضوء الأصفر، وبالتبديل بين الضوئين الأصفر والأزرق لتوليد إيقاع تردد يعادل 2 هرتز، أبدت الفئران سلوكًا يعبر عن حالة انفصال عن الواقع مشابهًا للسلوك الذي أبدته عند إعطاء جرعة من الكيتامين (3).
قد يكون من المبكر إسقاط هذه الفرضية على حالة الانفصال عن الواقع لدى البشر، لا سيما أنّ هناك تحدياتٍ أخلاقية بخصوص عزل مناطق الدماغ البشري ودراسة كل منها على حِدهً؛ إذ تقتصر الحالات التي يمكن فيها تقصي هذه الفرضيات على حالات المرضى الذين يحتاجون عمليات تخطيط الدماغ ودراسة نشاط القشرة الدماغية (كمرضى نوب الاختلاج الصرعي) وحسب، لكنَّ هذه الفرضية تعطي تصورًا يمكن الانطلاق منه لفهم أوسع للفيزيولوجيا العصبية لدينا وما قد يؤثره إيقاع محدد بتواتر منخفض على سلوك الإنسان ونشاطه العصبي.
* الأدوية المحرضة على الانفصال: هي أحد أصناف الأدوية المخدرة التي تؤثر في الجهاز العصبي المركزي عبر تعطيلها مستقبلاتِ نواقل عصبية مسؤولة عن الإدراك والذاكرة والتنقل كالغلوتامات، ولها بعض الاستخدامات طبيًّا إذ تعطي بالجرعات تحت المخدرة تأثيرًا مسكنًا للألم وخصائص مضادة للاكتئاب والسلوك الانتحاري (6,7).
المصادر: