مأساة فنان؛ مراجعة كتاب من الأعماق
كتاب >>>> روايات ومقالات
يدخل أوسكار وايلد المحكمة رافعًا قضية تشهير ضد والد صديقه المقرّب《ماركيز كوينز بيري》الذي ينتهي به المطاف خلف القضبان متّهمًا من قبل الأخير بأنه على علاقة "شاذة ومنحرفة" بابنه مقدّمًا أدلةً تثبت صحة دعواه، وعلى الرغم من دفاعه الصادق عن نفسه مقتبسًا من روايته "صورة دوريان جراي" مايوضّح موقفه، فإنّه يقع سجينًا مدة عامين مع الأشغال الشاقة، ليفقد كل شيء دفعةً واحدةً، ويبدأ فصلًا جديدًا من حياة وايلد.
"لا يوجد فنان لديه ميول أخلاقية، الميول الأخلاقية لدى الفنان هي شذوذ غير مقبول في طريقة التعبير، المعصية والفضيلة بالنسبة إلى الفنان لا يتجاوزا أن يكونا مواد خام للفن"
بعد قضائه عامين في السجن واقتراب إطلاق سراحه، يقرّر وايلد أن يبعث رسالةً طويلةً إلى صديقه "ألفريد دوجلاس" الذي كان السبب الرئيس في معاناته وشقائه، فتبدو كلماته قاسيةً حادةً، واصفًا إياه بأحقر الصفات، فهو في رأيه عديم الذوق والثقافة وطائش وناكرٌ للجميل، سطحيٌّ ومغرورٌ بنفسه، وأنه استنزفه ماليًّا؛ بسبب الإسراف بلهوه وملذاته وأسفاره، مذكِّرًا إياه بمواقف قديمة جمعتهما، حاول فيها وايلد بعدها التخلّص منه، لكنه فشِل في كلّ مرة بسبب أساليب "دوجلاس" المختلفة في العودة، فتارةً يبعث أمه أو حتى زوجة وايلد لترجواه أن يقبل بمواصلة صداقتهما، وتارةً يهدّد بالانتحار ليبعث في نفس وايلد الشقفة عليه.
"كان يجب عليّ بالطبع أن أتخلّص منك، كان يجب أن أقذف بك خارج حياتي، كما يقذف المرء شيئاً علِق بثوبه"
بعد محاولات وايلد المستمرّة والفاشلة في التخلّص من صديقه ومضايقات والد دوجلاس له، تأتي القشة التي قصمت ظهر البعير عن طريق تحريض صديقه له لرفع دعوى على والده. الدعوى التي انقلبت عليه واستندت على رسالة شاعرية، وأدبية، وخيالية كان قد كتبها وايلد لصديقه ردًّا على قصيدة شعرية، مع أدلة أخرى دفع بها والد دوجلاس إلى المحكمة.
"إن أمر الآلهة لغريب، فهي لا تكتفي أن تصنع من رذائلنا وسائل للتنكيل بنا، بل تدفع بنا إلى الهلاك بفعل ما هو فينا من خير ورقة وإنسانية ومحبة"
تهدأ كلمات وايلد قليلًا، بل وتنكسِر وهو يصف ألمه وشقائه، ويعترف أنه كان المُدمِّر الحقيقي لنفسه ولعبقريته عن طريق انحداره في الشهوات وإعطاء الحب لمن لا يستحق، وبصفته عاش مغرورًا مختالًا بعبث دون معنى غير ممتنٍّ لعطايا الآلهة، فقد كان همّه أن يواكب الموضة والأزياء منغمساً في المسرّات، غير مبالٍ بالآخرين.
"لا يمكن لأحد أن يدمّر شخصاً كبيراً كان أم صغيراً إلّا إذا فعل ذلك بنفسه"
تغيب لغة المخاطبة في القسم الآخر من الرسالة ونجد وايلد وحيدًا، متقبِّلًا للسجن، محاولًا التحرّر من مشاعر الحنق، مستعرضاً أفكاره التي تغيّرت في السجن بلهجة حكيمة، آملًا أن يعيش أكثر ليكتب عن أمرين الأول: عن المسيح لا كشخصية دينية، بل بوصفه فنانًا رائدًا للحركة الرومانسية فما حياته بنظره إلّا قصيدة وملحمة شعرية. والآخر: عن علاقة الحركة الفنية بالسلوك.
وفي الختام يخاطب صديقه بكلّ ودٍّ طالبًا منه أن يكتب له، وقائلًا له بأنه لا يزال لديه ما يعلّمه إياه وهو: معنى الحزن ومافيه من جمال.
"الأخلاق لا تساعدني فقد ولدت متناقض المبادئ .. فلست أعبأ بما يرتكبه المرء من خطايا، ولكن بما سيصير إليه من السوء بعد أن يرتكبها .. الدين لا يساعدني، فالإيمان الذي يعطيه الآخرون لما هو غير مرئي، أعطيه لما يستطيع المرء أن يلمسه وينظر إليه"
في القسم الثاني من الكتاب، قصيدة شعرية بعنوان "سجن ريدنج" وهي آخر ما كتبه بعد خروجه من السجن، يتحدث فيها وايلد عن رجل حُكِم عليه بالإعدام شنقًا لأنه قتل زوجته.
"في النهاية يقتل الجميع الشيء الذي يحبونه
وليسمعوا ذلك
بعضهم يُقتَل بكلمة مريرة
والآخر بكلمة متملقة
والجبان يُقتل بقبلة
أما الشجاع فيُقتَل بالسيف!
بعضهم يقتل حُبّه عندما يكون صغيراً
والآخر يقتله عندما يشيخ"
معلومات الكتاب:
من الأعماق_أوسكار وايلد
ترجمة: دعاء النوري
منشورات تكوين_ طبعة أولى 2019
عدد الصفحات: 232