رحلةٌ مع أول الآلهة مراجعة كتاب (لغز عشتار)
كتاب >>>> الكتب الأدبية والفكرية
كان على أحدٍ ما أن يتناول بتفصيل وعمقٍ شديدَين الميثولوجيا عامةً وأساطير هذه المنطقة خاصة، باحثاً في تقاطعاتها وتفاصيلها دونَ أن يملَّ من تشعُّبها وكثرتها، موقناً أنه _وفي نهاية المطاف حينما سيضع البحث فوق البحث_ سينظر إلى لوحته فيقول: السواح فراس. مؤسسة هنداوي؛ 2017. ص 284.
هذه أسطورتي!
وقد كان هذا ما تعهد به الباحث السوري فراس السواح (المولود في حمص عام 1941) منذ "مغامرة العقل الأولى" أول كتبه إلى يومنا هذا، واضعاً نفسه بعد نجاح مغامرته أمام مسؤولية خوض زمام هذه التجربة. فانكبَّ السواح _بهدوء الفنان ورغبة الباحث_ فوق المراجع والكتب ليضع القارئ ضمن "لغز عشتار" كتابه الثاني.
يحمل السواح قنديله ليضيء الطريق الذي سيرجعنا فيه إلى ما قبل الميلاد بمئة ألف عام في فصل "البؤرة الحضارية والأسطورة الأولى"، مستهلاً فصله بتساؤله عما إذا كانت الحضارة قد نشأت في بؤرة أساسية شعت منها نحو الأطراف، أم صدرت في مراكز متباعدة وخطوط متوازية ثم حطمت جدار التوازي وامتزجت؟
ليمضي نحو التحولات الأربع التي غيرت جذريًّا ملامحَ الحياة كلها من تلك الحقبة وصولاً إلى يومنا هذا، مُقسماً إياها إلى انقلاب، وثلاث ثوراتٍ بشرية كانت كفيلة بصنع خطوط العالم الذي نعيش به اليوم، متوقفاً عند المرحلة الممتدة ما بين الألف العاشر والألف السادس قبل الميلاد، والتي عدَّها المرحلة الحاسمة في التاريخ البشري إذ تنتقل فيها الإنسانية من الصيد إلى الزراعة وتربية المواشي، مُشكلةً بذلك القاعدة المتينة لحضارتنا المدنية.
ويلتقط السواح أنفاسه عند الحضارة السومرية في بلاد الرافدين؛ التي قد ابتدأ معها تاريخ الإنسان المكتوب في الألف الثالث قبل الميلاد، إذ شرع الإنسان تدوينِ الأحداث الإنسانية.
وهو يعرض لنا كيف انتشرت تلك الثورات والتحولات من خلال التجارة والرحلات واصلةً إلى أصقاع الأرض، مجيباً بذلك عن سؤال الفصل الرئيسي بأن حضارة العالم متفرعة من شجرة واحدة، مُشكِّلاً لنا في طريقه هذا، الصورة الكاملة وباقتضاب للنشأة البشرية حضارياً وفكرياً ودينياً، فيوضح فكرة الكتاب في وجود أسطورة أولى مركزية مفادها إلهة واحدة هي سيدة الطبيعة، وتبعاً لكل ذلك، يشرح دور عصر الزراعة في تكوينها، وإلى جانبها قد ولد ابنها الذي دعته عصور الكتابة بـ "تموز" أو "أدونيس"، ومن هذه السيرورة ما سيفسر للقارئ تباعاً تشابه الأساطير الأساسية لدى شعوب العالم القديم وتنوع مسميات الإلهة الواحدة عالمياً رغم اتفاقها في الصميم الفعلي، فمن سميت بمسميات مختلفة يدعوها السواح في كتابه باسمها البابلي "عشتار" مؤكداً أن "الأسطورة" _وبعيداً عن التقويض الأكاديمي_ لا يُراد منها أن تُؤخذ بوصفها دوغما جامدةً مقارنة بما هي عليه؛ بكونها حلماً خارجاً عن مسميات الواقع وغنياً بالمعنى ليخاطبُ القلوب والمشاعر، فلا يُراد به التعبير عن الحقيقة تعبيراً مباشراً كما هو شأن الفلسفة والفكر.
ومع الفصل الثاني "عشتار الأم الكبرى "، يضرب السواح بيد روَّاد الأنثروبولوجيا والعلوم الإنسانية بالمعتقدات السائدة عرضَ الحائط، فالعائلة بشكلها الأبوي الذي نعرفه اليوم، لم تكن على حالها هذا منذ بداية التاريخ، وإنما تحولت بانقلابٍ وصراع ناشب بين الجنسين، ينقله لنا السواح باستخدام أساطير تلك الفترة ويحكي فيه عن استلام الأبوة لمقاليد العصر القديم بعد أن كانت الأمومة هي النظام المترأس لعائلاته، ومع تسميته بالعصر الأمومي، يسرد المرحلة القائمة من تشكله حتى انهياره على مدار الفصل، رافداً ذلك بشرح لشكل العلاقات الأسرية والاجتماعية والجنسية بين أفراد تلك المرحلة، ومن فهمنا للعصر الأمومي سيكون الطريق أمام القارئ واضحاً لفهم فكرة الإلهة الأولى التي ربما هي الوحيد لإنسان تلك العصور!
إنها الآن سيدة الدورة الزراعية، ومركز للديانة الزراعية الأولى التي ستغدو مصدراً للديانات اللاحقة.
ويُطفئ السواح مع الفصل الثالث "عشتار القمر" مشعله ليدع ضوء القمر يضيء طريقَ أول ميثولوجيا خطها الإنسان في عصور ما قبل الكتابة نتيجة تراكم الألغاز من حوله، فبدراستها وبدراسة كل ما تَبِعها من أساطير في هذا الصدد، سنمضي وإياه في دأبه لإعادة بناء الأسطورة القمرية لعصر الزراعة بناءً على ارتباطها الوثيق بالآلهة الأم، أو لأنها واحدةٌ من مسمياتها مبيناً من خلال تكوين الصورة الكاملة للرموز الدينية (كالثالوث الدال على مراحل القمر، والحيوانات المرتبطة به، والصليب القديم) رغبته في إظهار أساطيرَ عصر الكتابة والجوانب القمرية للأم الكبرى؛ سواء من خلال النصوص المكتوبة أو من الأعمال الفنية التشكيلية.
ويشير مع فصل "عشتار الخضراء" إلى الكيفية التي شملت فيها عشتار العصر النيوليتي، إضافة إلى البراري والغابات.
الزراعة أيضاً ولكن تماسكها هذا لم يدم طويلاً حتى انقسمت إلى إلهتين منفصلتين لكل منهما خصائصه، فعشتار البابلية هي ذاتها ديمتير اليونانية، وكلاهما لم يقتصرا على خاصية خصب الأرض، وإنما عُنيا بالولادة والتكاثر تبعاً للعرف السائد في تلك الفترة.
ومع الأساطير السومرية، سنكتشف انقسام الأسطورة العشتارية إلى أسطورتين متوازيتين؛ إحداها كانت تُعنى بالخضار، والثانية بالموت ملقبة بـ "إريشكيجال".
ويُقسم الفصل إلى أقسام يحكي في جلِّها عن ارتباط الآلهة الكبرى وتجلياتها بالمحاصيل والحيوان والنار والطقوس المخصصة لكل منها
أما في الفصل الخامس "عشتار العذراء"، تمتزج الفلسفة مع موضوع الكتاب ليعرض لنا الكاتب أسطورة (التكوين والبدء) الخاصة بكل حضارة بمنأى عن أساطير الخصب سالفة الذكر، شارحاً إياها من المصرية إلى البابلية والفينيقية حتى الإغريقية، فحيثما يضع الخطوط العريضة لكل منها، سيُبان الاختلاف الحاصل فيما بينها والتقاطعات القليلة، كاتفاقهم على أن الحب باختلاف القوالب قد كان أحد أهم أركان بدء التكوين والجوهر في غالبية الأساطير القديمة.
ثمَّ يجمع الفصل السادس شتات الملاحظات التي استشفها كاتبنا والقارئ من خلال الفصول الخمسة الماضية عن طبيعية الآلهة، فعلى الرغم من تفوقها في جلِّ الأمور الماورائية التي نالت من خلالها هذا اللقب من قبل أجدادنا، فإنها بقيت قريبة من الحالة الطبيعية للجنس البشري ما أمكن، ورغمَ علو شأنها، يتصور الإنسان القديم أن الآلهة لها بعض الوظائف الحيوية المشتركة مع الإنسان كالجنس مثلاً وهي لا تمارسها للاستمرار! فما هو أزلي وأبدي في عرف ذاك الإنسان لا يحتاج إلى الاستمرار فهو كذلك فعلاً، إنما تنحو هذه العملية البشرية عند الآلهة منحى القداسة لشدة ما يعنيه الجنس بوصفه طقساً دينياً لدى الإنسان الذي اخترعها.
ومن صميم المتناقضات، يبدأ السواح حكايات الفصل السابع بفكرة فحواها بزوغ الكون من النقيض؛ فمن الموت تنشأ الحياة، ومن الليل يحل النهار، ومن وجوب وجود النقيض يرتسم الوجود البشري في رأي غالبية الحضارات والأساطير التي تناولها السواح في خلال هذا الفصل؛ وقد كان من أكثرها توضيحاً لهذا الصراع أسطورة "بعل" و"موت" الأوغاريتية، إذ سطرت هذه الحرب الدائبة بين بعل (إله الحياة) وموت (إله العالم الأسفل) في استمرارها عنواناً مغايراً في مفهوم الصراع، فصار يسمى تعاوناً يحافظان فيه على الوجود من وقوعه في هاوية السكون والعدم، متفقةً مع هذه الفكرة غالبية أساطير الفصل التي _وبمزجها مع أساطير التكوين والخصب_ سيتضح لنا سبب عنونة سابع فصوله بـ "عشتار السوداء" كونها إلهة شمولية تجمع في كنهها الخير والشر آخذةً على عاتقها أن تكون إلهة للخصب والحياة تارة، وللموت والخراب تارةً أخرى.
وقادت المرأة منذ العصر النيولوتي دفة الحياة، وقد نجم عن هذه المكانة تربعها على عرش الآلهة هناك، فتزايدت مع هذا كله مكانتها حتى انقلاب الرجل ودخوله مسرح التاريخ
أما ما قبل ذلك، فقد انبثقت الأديان من صلبها منصفةً إياها تاريخياً رغم شتى محاولات صرع وجودها ودثره في عصر التمدن والكتابة إلى اليوم، ومن هذا الانبثاق سندخل الفصل الثامن "عشتار أم الأسرار؟" فيضيف السواح خلال بحثه للمرأة سبباً إضافياً لمكانتها، فباكتنازها للحكمة التي شهدت لها أساطيرنا الأولى وصولاً لآلهة الأوليمب، سيصبح في حوزتها كل من الموت والحياة والحكمة، متابعاً مشواره في أعمق أسرار عشتار وتجلياتها حتى الطقوس القديمة منها بما تكتنفه من جنون وغيبوبة وما يتعلق بها من سحر.
ففي الألف السابع قبل الميلاد، ومع ظهور التماثيل الذكرية المقدسة _معلنةً بداية أسطورة الإلهة الأم وابنها والتي ستتضح أكثر خلال الألف السادس قبل الميلاد_ ستدور أبحاث السواح في "تموز الخَضِر" فصل ما قبل الختام من هذا اللغز، الذي سيسلط فيه الضوء على الإله الرجل الذي انقلب محاولاً الإطاحة بالإلهة الأنثى وتهميشها.
وبالسرد الذي عودنا عليه فراس السواح، سيبدأ مع السائد عن عشتار باحتوائها على بذرة الرجولة _بوصفه متناقضاً يدل على شمولية الإلهة الأم _ والتي انفصلت عنها مع التطور الطبيعي للأسطورة مشكلةً ابن الإلهة، فالحبيب المُخصِب وصولاً إلى الإله الذي نشأت منه الآلهة الذكور، مع بقاء تموز ابناً لعشتار.
فإذا ما تعمقنا في دراسة الأساطير الإغريقية سنرى كيف نشأت آلهة الأوليمب الذكور من تجلي تموز (أورانوس) ابن تجلي عشتار (جايا).
وعليه، يسهب الفصل في تصوير الطقوس الخاصة بكل حضارة التي من خلالها عبدت كل منها الإله الذكر بطريقتها، مع اختلاف اسمه وبقاء جوهره كما هو حال الإلهة الأم.
لم يمضِ على الإنسان وقتٌ تاق فيه لاستنفاذ حدود الممكن بقدر ما كان مأخوذاً بفكرة الخلود، فمنذ أن ظنَّ الموت معبراً بين حالةٍ وحالة مع أقدم رجل حكى لنا عنه السواح هذه القصة إلى اليوم الذي كتب فيه الفصل الأخير من لغز عشتار "عشتار المخلِّصة"، دأب الإنسان في بحثه عن الخلاص، لكون الفناء بطابعه بين المجهول والخوف من أكثر الألغاز التي كانت تؤرقه.
ومع ارتباط عشتار بالقمر الخالد حتى حاجة الإنسان للأسطورة التي تطمئنه، ستبنى اللبنة الأساسية في "أسطورة الخلاص" المضافة لأساطير التكوين والخصب على أنها ديانة قائمة في حد ذاتها، تتميز باستقلالية الإله المُخلِّص عن الإلهة الأم، وبما اكتنزته من السرية لدى مريديها، ما يجعل هذا الجزء من اللغز "لغز عشتار" وما يلفه من الغموض أرضاً خصبةً للتحليل، فالأسباب والنتائج التي سيختتم معها كتابه بوضعه اللمسة الأخيرة لحديثه الذي امتدَّ طيلة الفصول السابقة عن رحلة السيدة مريم من قديسة إلى أم كبرى.
سار فراس السواح في التاريخ موغلاً إدراكه في كل ما حدث، ورابطاً إياه بما يحدث في علمٍ يحتاج إلى البحث والخيال والحقيقة وحتى الحذر! إلا أنه دائماً ما كان متجاوزاً لعقبة التابو بالسير قربها من دون أن ينفد إليها بطريقة فجة كانت ستثير الحنق الذي سيُفشل مسعى كتابه هذا.
ولربما كان هناك دائماً هامشٌ للخطأ، إلا أن لغز عشتار لم يكن معالجة رأي بقدر ما كان سرداً حميماً وبحثاً مستطرداً في عمق الأسطورة عبر التاريخ منذ النشأة الأولى وحتى تكاثفها في بؤرة الحضارة ثم اتساعها لتشمل الأرض كلها.
وسنرى مع أول صفحة للكتاب حتى آخره أن هذا السرد لم يكن منوطاً بالزمن فقط، فقد كان فراس يقفز من حضارة إلى أخرى عبر الزمكان الخاص بكل منها، ويفكر بصوت عالٍ في الأفكار التي تكتنفها.
وبترابط يُعزى إلى نَفَسِ الكاتب بالقدر نفسه الذي يعزو فيه الكتاب معلوماته إلى نَفسِ الباحث، سيقدم لنا السواح لوحته هذه وهو يقول: هذه أسطورتي!
المؤلف: فراس السواح.
الناشر: مؤسسة هنداوي.
سنة النشر: 2017.
عدد الصفحات: 284.
المصادر: