"برغشة ضد فيل" مراجعة كتاب عنف الديكتاتورية
كتاب >>>> الكتب الأدبية والفكرية
يصل القسّ جان كالفن جنيف هربًا من محاكم التفتيش في فرنسا، ليستعينَ به لاحقًا الداعية فاريل الذي استبدل المذهب البروتستانتي بالكاثوليكي في جنيف وعزم على صنع سلطة دينية توازي سلطة البابا في روما، فمدّ له كالفن يدَ العون، وأُسنِدت إليه وظيفة "قارئ الكتابات المقدسة" لينطلقَ منها إلى استحواذٍ كاملٍ على السّلطة الدّينية والمدنية والسياسية في البلاد.
يُخضِع كالفن شعبَ جنيف إلى سطوته عبرَ التّعاليم الدّينية الصّارمة، وقمعهِ لكلّ مظاهر البهجة والفن، واستئثارهِ _وحده_ بتأويل النّص الدينيّ، ورفضهِ القاطع لأي رأي مخالِف لرأيه، يدفعُ هذا التّشدّدُ الشعبَ بالخروج عليه ليُستبعَد من قِبل السلطة المدنية، ولا تلبث الفوضى أن تحكم الوضع حتى يصلَ الحالُ بالسلطة إلى مطالبة كالفن بالعودة إلى البلاد لإعادة النظام والانضباط، ويعود كالفن ليحكمَ قبضته الحديدية أكثر من قبل.
لا يقبل كالفن أيَّ انتقادٍ لما يصدر عنه من قولٍ أو فِعل، ويعدّ أي صوتٍ يعلو غير صوته هو عدوٌّ يتوجّب الخلاص منه، وفي المقابل يبرز القسّ سباستيان كاستيليو _المُعجَب بأفكار كالفن_ ليقدّمَ ترجمةً أخرى للكتاب المقدّس، فلا يلاقي سوى قمع الفكْر يليه النفي والاستبعاد، لكنّ معركة كالفن وكاستيليو لم تبدأ بعد.
درس ميغيل سيرفيت اللاهوت والطّب، ولم يستطع تقبُّل فكرة الثالوث المقدّس في الدين، إذ يَعدّ أنّ ذلك يتنافى مع وحدة الذات الإلهية، وما إن يُصرّح بأفكاره حتى يُتّهم بالزندقة ويُقبض عليه من قبل محاكم التفتيش الكاثوليكية، ويستطيع الهرب منها إلى جنيف متنكّرًا باسم آخر ويصبح طبيب كبير الأساقفة في فيينا، ويعودُ لينشرَ أفكاره علّها تجد أذنًا صاغية بين أصحاب المذهب الإصلاحي، لكنّ كالفن لن يكون أرحم من محاكم التفتيش عليه، فيُدبِر له المصائد ويلقي القبض عليه بعد سوقه كثيرًا من التُهم التي تُثبِت زندقته، ويُشرِف شخصيًّا على محاكمته ويدفعها للحكم عليه بالإعدام بأقسى الطرائق وهي الحرق البطيء حيًّا! ليُنفَّذ الحكم في ساحة شامبل وليكونَ أول شخصٍ يُعدَم بالمذهب الإصلاحي البروتستانتي بسبب أفكاره ولتناوله النص الديني بطريقة مختلفة، ممّا يخلق حالة من الغضب الشعبي ومن رجال الدين بمختلف المدن، وعلى رأسهم كان سباستيان كاستيليو، إذ بدأت المواجهة المباشرة بينه وبين كالفن.
تناول كاستيليو تهم كالفن بالتفصيل وردّ عليها كل واحدة على حدى، وكانت حجته في ردوده كتابات كالفن نفسها!
"عندما أبحث عمّن هو زنديق فعلًا، فإنّني لا أجد سوى أنّنا جميعًا سنطلق صفة الزنديق على كلّ من لا يوافقنا رأينا"
تبدو المعركة بين كالفن وكاستيليو غير متكافئة، وخاسرة بديهيًّا للأخير، غيرَ أنّ كاستيليو يظلّ متمسّكًا بموقفه السلمي الداعي للإصلاح والحرية، وينأى بنفسه عن السقوط في أفخاخ خصمه، ممّا يدفع كالفن إلى تضييق الخناق عليه، ومنعه من الكتابة والنشر، ولم يكن ذلك سوى إسكاتٍ لقلمه لا لضميره الذي ظلّ مقاومًا مدافعًا عن العدالة والحرية حتى نهاية حياته في السجن قبل المحاكمة، وتنتصر الديكتاتورية في النهاية.
بقالبٍ روائي استطاع تسفايج أن يبرزَ وسائل وأخطار الديكتاتورية، مستعرضًا الأحداثَ التاريخية بانحيازٍ واضحٍ لمقاومة العنف والطغيان، وما استحضاره لانتصار الطغيان الكالفيني إلّا تعبيرًا عن اليأس، ومع هذا سيبقى صوتُ وكتابات كاستيليو خالدًا وصرخته المقموعة في وجه كالفن هي صرخةٌ ضد كل الديكتاتوريات والطغيان على مرّ العصور.
اقتباسات:
"لن يكون بوسع التاريخ أن يدركَ، أنّنا سوف نضطرّ إلى العيش مجدّدًا في هذه الظلمات، بعدما كانت الأنوار قد سطعت ذات مرة"
"إنّ إحراقَ إنسان لا يعني إطلاقًا الدّفاع عن عقيدة، وإنّما قتلُ إنسان"
"إنّ كلّ نضال سيبقى بلا أمل حين يخوضه إنسان بمفرده ضد تنظيم متماسك متين، من دون سلطة تحكمه سوى الحق الأخلاقي"
"إن الأبطالَ الحقيقيين للإنسانية ليس الذين شيّدوا ممالكهم الزائلة على ملايين القبور وملايين المهمشين، وإنّما تحديدًا، أولئك الذين سقطوا وهم عزّل في مواجهة العنف"
معلومات الكتاب:
كتاب عنف الديكتاتورية
الكاتب: ستيفان تسفايج
المترجم: فارس يواكيم
دار النشر: الفرات للنشر والتوزيع 2013
عدد الصفحات: 228
المصدر:
تسفايج ستيفان. ت يواكيم فارس. الفرات للنشر والتوزيع. بيروت 2013. ص 228