ملحمة ستيفن باكستر الروائية
كتاب >>>> روايات ومقالات
يبدأ باكستر رحلته على متن طائرةٍ في عام 2031 فوق استراليا، بِ حديث "جوان" و "أليس" مع الطفلة "بِكس"، في محاولةٍ للتخفيف من توترها بسبب مظاهر ثوران البركان (رابول)، حيث كانوا متوجهين للمشاركة في مؤتمرٍ علمي يناقش الأخطار المحيطة بالجنس البشري في يومنا هذا. تروي "جوان" ل "بِكس" عرضياً قصتها عندما كانت طفلة حيث كانت برفقة أمها عالمة المستحاثات، وعثورهما على سنِّ أحد الثدييات القديمة التي كانت تعيش أثناء وجود الديناصورات على الأرض. يعود هذا السنُّ لأنثى من نوع (برجاتوريوس)، والتي أطلق عليها باكستر اسم "برجا"، التي لم يكن عقلها متطوراً بما فيه الكفاية لتطلق على نفسها اسماً من الأساس.
ويحكي باكستر قصة تهجيرها من جحرها الأول من قبل أحد الزواحف المجنحة، التي كانت من النوع المسيطر على الأرض في ذلك الزمن. وعند هذا السرد لقصة برجا، يلحظ القارئ وضاعة الثدييات في ذلك العالم و قلة مكانتها، فلم تكن برجا أشبه بشيء أكثر من الفئران أو حيوانات الأبوسوم. كانت برجا قد عانت من مأساة تهجيرها بشكل مترافق مع ظهور ضوءٍ ساطعٍ في سماء الليل، سبب اضطراباً في النظمِ العصبيةِ لسكان حقبة العصر الطباشيري.
يغادر باكستر برجا في عدة مناسبات ليروي قصة انطباعات عدد من الكائنات الأخرى عن هذا الضوء، الذي لم يكن إلا مذنب (تشيكوشولوب) أو "ذيل الشيطان" بلغة سكان أمريكا الأصليين، وهو المذنب الذي يُعتقد أنه كان سبباً في انقراض هذه الزواحف العملاقة، ويلاحظ القارئ أن باكستر يتبع مقولة مارك توين:
"أولاً احصل على الحقائق، ثم اعبث بها كما تريد". حيث يناقش عدداً من الكائنات التي لم يكن مقدراً للبشر أن يكتشفوها بسبب اضمحلالها نتيجةً للعوامل الطبيعية ومن هذه الكائنات:
(الحوت الجوي)، وهو كائنٌ يقضي حياته طائراً في طبقات الجو العليا ويعتاش على العوالق الجوية.
(ليسنر أو " المستمعة" ) وهي أنثى ديناصور، يناقش من خلالها سلالةً من الديناصورات كانت قد تطورت عقولها بما يكفي لاستخدام لغة الإشارة وتطوير الأدوات من الرماح الحجرية والأحزمة المصنوعة من الجلد تستخدم كسياط لإرباك فرائسها.
يتابع باكستر واصفاً في مشهد تقشعر له الأبدان اصطدام المذنب بالأرض، حيث أدى هذا الاصطدام إلى حدوث الزلازل وتحريك موجات صدمية أسرع من الصوت، عبثت بالغلاف الجوي للكرة الأرضية، أما كميات الحرارة الناتجة عنه أدت لاحتراق الأحياء وغاز الأوكسجين الموجود في الهواء خلال ثوانٍ، وتوليد غاز سام نتيجة اندماج النتروجين مع الأوكسجين سبَّبَ تعطيل الحياة على الأرض لفترة طويلة.
وبعد مجيء العصر الجليدي الناتج عن الاصطدام، يعود إلى برجا – التي سينحدر منها البشر يوماً ما-التي بلغت سناً متقدمةً وتركت ابنتها الأخيرة مع زوجٍ من نوعها، مما سمح باستمرار نهر الجينات الخاص بها مستقبلاً.
يتكلم بعدها عن أحد أسلاف البشر، الذي تطور من نسلِ برجا حيث أطلق عليه اسم " نوث"، المُنتمي إلى فصيلة (نوثريكتوس) الشبيهة بحيوانات الليمور، و"نوث" يعتبر وسيطاً بين برجا والقردة، والذي كان عقله يمثل وثبةً نوعية ًمن حيث تطور معرفته الاجتماعية و ادراكه بأن أفعال الآخرين لها تأثير عليه، لكنه لا يزال لا يدرك أنَّ له تفكير منفصل عن الآخرين. و يسرد قصة ترحاله و أخته "رايت" بعد هجومٍ من أحد أبناء فصيلتهم على عائلته، إلى أن وجد جماعةً أخرى يستطيع الانتماء إليها و يكمل حياته معها، و كان ذلك قبل نحو 51 مليون سنة من عصرنا.
ينتقل فيما بعد إلى (رومر)، و هي إحدى أوائل القردة على الكرة الأرضية، التي كانت أيضاً من نسل برجا، و التي تواجدت قبل نحو 30 مليون سنة من يومنا هذا. كان ذكاء هذه القردة الاجتماعي لا يزال محدوداً إذ كان يشبه إلى حدٍ كبير التسلسل الهرمي للقيادة في جماعة نوث، لكنَّ سلسلة من الأحداث المؤسفة أودت بها مع عددٍ من أفرادِ نوعها على طوفٍ مؤلفٍ من شجرة مانجو جرفتها المياه من غرب أفريقيا إلى المحيط الأطلنطي، مما أدى إلى انتهاء الحال بها على إحدى شواطئ أمريكا التي كانت لا تزال متصلةً بباقي الأراضي عبر عددٍ من الجسور الأرضية.
يتم الانتقال بعدها إلى " كابو" أحد أحفاد برجا في شمال أفريقيا منذ نحو 5 ملايين سنة، والذي لم يكن قادرا أيضاً على تسمية نفسه، إلا أنه كان من سلالة القردة العليا أي كان عقله متطوراً بما يكفي لوضع حسابٍ لنوايا الآخرين وأفعالهم. أحس كابو الذي كان قائداً لمجموعته بعدم الارتياح لنقص الموارد في الغابة وخوفه على نوعه من الاندثار، هذا ما دفعه -رغم معارضة عدد من أفراد مجموعته-إلى قيادتهم خارج الغابة إلى أراضي السافانا ليبدؤوا بالاقتيات على اللحوم و خيرات الأرض عوضاً عن موارد الغابة المُتناقصة، و أدى هذا القرار إلى سلسلة من التغييرات في سلالته خضعت لقوانين الانتخاب الطبيعي، إلى أن وصلت الرحلة التطورية إلى أولى سلالات "الهيومينيد" قبل مليون و نصف عام في أواسط كينيا.
يروي باكستر قصة " الهيومينيد" عن طريق أنثى أطلق عليها اسم (فار)، و التي كانت من أوائل الأقوام منتصبي القامة، و كان قومها أول من صنعَ الأدوات، و استخدم اللغة بأشكالها البدائية كمجموعةٍ من الكلمات التي تحتاج لمرافقتها بالحركات للشرح، و كانت فار بعد أن ابتعدت عن قومها، أول من استخدم الرسومات على جسدها كإشارات للخصوبة في محاولتها لإغراء أحد الذكور للتزاوج معها.
يتابع باكستر إلى 127 ألف عام قبل عامنا الحالي، عبر "ببل" الفتى الأقرب إلى سلالة "النياندرثال"، الذي اضطر إلى قيادة من تبقى من عشيرته على قيد الحياة بعد هجوم لأحد الأقوام الآخرين عليهم، و كان قومه يتميزون بالضخامة و القوة و صغر حجم الدماغ، إلا أنه فيما بعد يلتقي بـ"هاربون"، التي كانت مشابهة تماماً للبشر بشكلهم الحالي، و التي أدى تزاوجه معها إلى سلالةٍ وَسَط بين القوة و الذكاء.
تُكملُ سلسلة الأحداث مسيرها إلى 60 ألف سنة قبل عصرنا هذا، حيث تظهر "ماذر"، التي كانت بشكلها البشري تماماً احدى أولى العقول المتطورة في التاريخ البشري، حيث كان تطور عقلها عن باقي جماعتها له آثار سلبية عليها كان منها: نوبات ألم فظيعة من الصداع النصفي و فصام بدت معالمه واضحة بعد وفاة ابنها بشكل مجهول. كانت ماذر من أوائل من طوروا قدرة التفكير السببي الارتباطي، و منه كونت فَهماً أوضَح للعالمِ المحيط بها، إلّا أنَّ مرضها النفسي أدى بها إلى قتل عمة ابنها و التي ظنت أنها المسؤولة بـ"روحها الشريرة" عن قتل ابنها، فبحسب تفكيرها السببي "لكل شيء سبب"، و إذا مات أحدهم، فمن المنطقي أن شخصاً قد سبب موته.
تسيطر ماذر فيما بعد على قومها عن طريق عظام ابنها، بعد أن أقنعتهم أنه تحدَّث إليها من وراء القبر، لتؤدي بعدها تضحية بشرية سببها الأساسي سياسي لكنها قامت بها و هي مقتنعة بأنها محاولةٌ لإرضاء آلهة السماء، التي كانت قد منعت عنهم الأمطار. و بعد انتهاء موسم الجفاف بشكلٍ مصادف بعد التضحية بـثلاثةِ أيام، أعلن قومها صلتها المباشرة مع الآلهة، و بذلك كانت ماذر أولى الشامانات عبر التاريخ، و التي بقيت مسيطرةً على قومها، و ابتدعت الوشوم ارضاءً للآلهة و تمييزاً لقومها. توفيت ماذر بعد أن أصبحت ما يشبه بقائد دولةٍ استعمارية على مقياسٍ مصغر، على يد مساعدها الذي قتلها رغم ولاءه رحمةً بها بعد أن أصبحت طاعنةً بالسن و كذلك رحمةً بقومها، إلا أنها قبل موتها أطلقت على نفسها اسماً و بذلك كانت من أوائل البشر الذين يقومون بذلك، و كان اسمها (جا-آن) بمعنى الأم.
تتابع الرواية إلى 52 ألف سنة قبل عصرنا، لتحكي عن "إجان"، الذي كان قومه من سلالة ماذر الذين هاجروا إلى جنوب شرق آسيا، و الذين كانوا يعبدون ألهتهم (جا-آن)، و طوروا اللغة بشكلٍ متقن لتشكيل جملٍ مفهومةٍ و ذات معانٍ واضحة و لها أسس. وبهذا يكون "إجان و أخته "روشا"، أول البشر الذين وصلوا الى استراليا، حيث يقوم إجان بهذه الرحلة تكريماً لأخوته الذين ماتوا في محاولتهم الوصول الى القارة العائمة في الجنوب.
انتقل باكستر إلى قصة "روود" و ابنته "جانا" و ابنه "ميلو"، الذين عاشوا في فرنسا قبل قرابة 31 ألف سنة، و كان يعيش بقربهم نوع آخر من البشر (الحمقى)، الذين استخدموهم كعبيد و الذين كانوا فعلاً نوعاً آخر من البشر بعقول محدودة و غبية و أجسام قوية. و يحكي قصة آخر تواصل للبشر مع آخر فرد من سلالة النياندرثال.
ينتقل بعدها إلى "جونا"، التي عاشت في الأناضول قبل 9000 سنة، و الهاربة من قومها بعد أن حملت من عشيقها و خشيت على طفلها من أن يقوم قومها بوأده بسبب قلة الموارد و عدم قدرتهم على إطعام فرد جديد، و وصلت في رحلتها هذه إلى حضارةٍ أخرى كانت أول من ابتدع الزراعة و تربية الماشية، لتذهب فيما بعد إلى (كاتا هوك) المدينة المسيطرة على المقاطعات الزراعية و تتزوج ابن الملك "بوتوس"، الذي عانى من نهايةٍ مأساوية بسبب انتشار المجاعة و المرض بين أفراد قومه.
وهنا يناقش باكستر الأمراض التي لم تكن لتظهر لولا تجمع البشر في جماعات كبيرة ويقول جملة تستحق التأمل:
"وفجأةً توقف البشر عن الإنجاب كالرئيسيات، وبدأوا بالتكاثر كالبكتيريا".
ينتقل بعدها إلى العام 480 بعد الميلاد في فترة انهيار روما فيحدثنا عن "هونيروس الروماني" وتلميذه "ألاثريك" المنحدرِ من سلالة البرابرة العبيد، كان هونيروس أحد العقول المنفتحة المؤمنة بالتطور، إلا أنه رُغمَ تشبعه بأساطير القدامى رفض الهيمنة الكنسية على الفكر و آمن بأهمية البحث.
أمضى "هونيروس" رحلةً محفوفةً بالمخاطر بحثاً عن عظام البشر القدامى، الذين كانوا يظنون أنهم منيعين ضد الأمراض و ذوي بأسٍ شديد - و هو أمرٌ صحيح إذا ما تغاضينا عن إدراجهم في أسطورة الخلق الرومانية و تصنيفهم مع الجبابرة-، و رافقهم في رحلتهم "باباك الفارسي" و "السيثياني" الذي هو أحد أفراد البدو الرحل من الأردن.
و في رحلتهم الأخيرة و بعد حلولهم ضيوفاً على أحد الأباطرة، و بعد رفض هونيروس أن يتم تنصيبه أسقفاً لرفضه أن تتم قولبته ضمن المؤسسة نفسها التي أدت إلى انهيار المستوى الفكري الجمعي، التي كان يرى أنها استبدلت المحتوى العقلي الإغريقي بالخرافة. رافقهم في هذه الرحلة عددٌ من الشباب المتلهفين للمعرفة، و في رحلتهم هذه أخذهم هونيروس إلى كهف كان قد رأى فيه عظاماً في طفولته، كانت هذه العظام في الواقع لإنسان النياندرثال نفسه الذي قابلته جانا و ميلو، لكن كانت نهاية هونيروس مؤسفة إذ قتله أحد الشباب المرافقين لهم، و تبين أنهم ما كانوا إلا جزءاً من مؤامرة حاكها مضيفهم السابق.
يعود بعد ذلك باكستر إلى جوان و أليس اللتان كانتا في بار الفندق المقرر إقامة المؤتمر فيه، إذ تعطلت نشاطات المؤتمر بسبب النشاط البركاني من جهة و بسبب النشاطات الإرهابية لجماعةٍ راديكالية، يعادي أفرادها النشاطات العلمية لهذا المؤتمر بسبب شيطنتهم المسبقة لفكرة العولمة، كانت هذه الجماعة تطلق على نفسها اسم (العالم الرابع)، و كانت لا تتوانى عن القتل في سبيل قضيتها التي كانت - كما كان من سبقوهم في حمل هذا الفكر- فكرة معاداة كل ما هو جديد، و كل ما يمكن أن يساعد في تطور البشرية و لو بِسبلٍ غير مألوفة، فوقفت هذه الجماعة ضد الهندسة الجينية و الحملات العلمية و قتلت ما وقع بين أيديها من كائنات مُهندَسة وراثياً.
لكن جوان لم تقبل بالرفض، وقامت بإلقاء خُطبة صادقةٍ من على منضدة البار، في حين كان يعرض على الحائط من خلفها صورٌ لمسبارٍ على المريخ كان يعمل ضمن فكرة (مسبارات فون نيومان)، التي تقوم على نسخ الرجل الآلي لِنفسه من المواد الخام للكوكب المضيف ويجري تطويرات على ذاته وتصميمه وينطلق الى كوكبٍ أخر.
كانت خطبة جوان حماسيةً جداً و رُغم وجود عددٍ من المعارضين، إلا أنها طغت على الحشود بأفكارها. و رغم كل الأخطار المحدِقة بِجنسنا البشري ذكَّرَت جوان الحضور بواقع "أننا النوع الوحيد الذي حقق القدرة على التواصل على مستوى الكوكب خلال 4 مليارات عام من وجوده"، إلا أن مجموعة من الإرهابيين قامت بمهاجمة البار، مما أفقد العلماء أي فرصة لمناقشة حلولهم أو تنفيذها، وترافق ذلك مع ثوران (رابول) الذي مهد الطريق إلى انقراض الجنس البشري.
في السنين اللاحقة، تقوم الروبوتات باستنزاف المريخ بشكل كامل حتى يختفي الكوكب من الوجود، وتهيم الروبوتات في الفضاء بحثاً عن منشأها.
على الرغم من طول المقال السابق، إلا أننا مع ذلك قد أغفلنا ذكر الكثير من الشخصيات و الأحداث، التي تشكل بالتكامل مع ما ذكرنا ملحمةً رائعة تُلهب احساس القارئ، و تفتح عيوننا إلى أنه خلال 13،7 مليار سنة من عمر الكون، و 4 مليارات سنة من عمر الأرض، و 400 مليون سنة من ظهور الحياة على سطحها، لا يشكل وجود الإنسان عليها إلا جزءاً من جزءٍ من جزءٍ من تاريخ الوجود، لذا علينا أن نهتم بشكل أكبر لنحافظ على وجودنا، و إدراك كيفية وجودنا في المقام الأول، كي لا ينتهي بنا المقام مثل "ألتيميت" التي اختتم باكستر بها روايته.
الرواية: التطور.
الكاتب: ستيفن باكستر.
دار النشر: كلمات عربية.
ترجمة: قسم الترجمة بكلمات عربية.
الرقم الدولي: 9789776263505
عدد الصفحات: 786.