عن ألم الوحدة والحاجة إلى الآخر مراجعة رواية "أفكر في إنهاء الأمور" – إيان ريد
كتاب >>>> روايات ومقالات
يُعتقد أن مثل هذه الأعمال الأدبية نادرة في العموم، أو تتطلب نوعاً من العبقرية الفنية والنفسية والدرامية في آن معاً، ولكي يخرج العمل بهذه الجمالية المعقدة، والتي تتطلب من القارئ قراءات عديدة له؛ الوقوفَ على جوهره وما يحاول الكاتب (إيان ريد_ (1981) Iain Reid) أن يسرده، وربما يكمن جمال بعض الأعمال في هذه الخاصية بالذات، أي أن يبدو العمل محاولةً لقول شيء ما، فيستنطق ما لدى القارئ ويجعله يربط الخيوط والتفاصيل سوية في النهاية، وذلك حتى يُفهم العمل برمِّته بعد محاولات عديدة. المصدر: معلومات الكتاب:
"أفكر في إنهاء الأمور" رواية للكاتب الكندي "إيان ريد" وأحد أهم مؤلفاته الأدبية، تبدأ الرواية بعبارة تُكررها حبيبة جاك التي روَت الأحداث بصوتها: "أفكر في إنهاء الأمور"، فمن الصفحة الأولى يتضح للقارئ من خلال أفكارها وتصوراتها رغبتها الشديدة في إنهاء علاقتها معه.
تبدأ علاقتهما قبل أُسبوعين عندما دسّ جاك في يدها ورقة تحوي رقمه، وفي تلك اللحظة ندرك أنها تجلس معه في السيارة متجهين نحو منزل والديه بعد دعوتهم للعشاء، وتدور بينهما حوارات عديدة عن الأمور المتعلقة بحياتهما؛ عن القلق والكآبة ومشاعرهم حيال التغيرات في عصرهما، فتشاركه مخاوفها وتتحدث عن عاداته وقراءاته وتفاصيل عيشهما.
غير أنها تعود في كل مرة إلى ذكر ضرورة إنهائها العلاقة، وعدم معرفتها بالطريقة الأنسب لفعل ذلك، لا سيَّما وأنها متجهة معه للتعرّف إلى عائلته، الأمر الذي يجده مُهماً بينما تجده هي مُقلقاً بعض الشيء.
رغبتها في أن تكون وحيدة والابتعاد عنه لم يكن بسبب كرهها أو مقته له، لكنها تُشكك في دوام العلاقة وتريد وضع حدٍّ لهذا.
"أليست الوحدة، هي الفرصة الوحيدة التي نستطيع من خلالها أن نحصل على النسخ الأكثر صدقاً من ذواتنا، دون أن نكون مرتبطين بشخصٍ ما ودون أن نجد أنفسنا مُلوثين بوجوده أو ظنونه؟"
خلال تتالي الأحداث يجد القارئ أن هناك حواراً آخر، يدور بين رجل وامرأة في زمان مختلف، يتحدثان عن جثة قُتلت طعناً، وعلى الرغم من اختلافه الظاهر مع الأحداث الأولى إلا أن ذلك له علاقة بنهاية العمل.
ويصل جاك ومحبوبته إلى منزل والديه، يتجولان في المزرعة وسط الثلوج والأجواء الباردة، ويبرع الكاتب في توصيف تفاصيل المزرعة وتوظيف مفاهيم الموت والحياة والقلق والخوف التي تظهر بها، كل ذلك جعل الشابة ترتعد خوفاً وتتساءل في قرارتها: "ماذا لو لم تنتهِ المعاناة بالموت؟ ماذا لو استمرت حتى بعد اختيار الموت الرحيم؟"
وهناك تُقابل الشابة والدي جاك وتتناول العشاء معهما، غير أن الأحداث الدقيقة والبسيطة هناك تُنبئ القارئ بأن ثمة زمان طويل يمتد بصورة عجيبة في ذلك المنزل، وأن التفاصيل المذكورة يعتمد عليها الكاتب في تبيان قصته ومقولاته المُهمة، وفي فهم أهم الأحداث التي ترسم الصورة النهائية للعمل، الأمر الذي يكون جليّاً في الخاتمة.
وتنتهي الزيارة بغرابة كما بدأت، ويقود جاك سيارته عائداً مع حبيبته، يتوقف لشراء الحلوى ومن ثم يُصرُّ على المرور بجانب إحدى المدارس وسط الأجواء المُعتمة والباردة مما يثير قلق حبيبته، لاسيَّما عندما تفقده فجأة وتخرج للبحث عنه في ممرات المدرسة، لتجد نفسها واقعة في مأزق كبير قد يبدو ظاهريّاً مُرعباً للغاية، ولكنَّه يُنبئ بحقيقة مأساوية.
وقبل أن يفهم القارئ من هذه التفاصيل الأخيرة شيئاً، يجد نفسه متابعاً لحوار الرجل والمرأة اللذان وجدا جثة جاك مقتولاً في ممرات المدرسة، بعد عمله فيها لأكثر من ثلاثين عاماً عامل تنظيف.
ويُدرك أن كل تلك التفاصيل الدقيقة التي خلعها جاك على والديه وحبيبته وأخيه المُحتمل ليست سوى تفاصيل تخصّه وحده، مثل حساسيته من اللاكتوز، وإصابته باضطراب نتف الشعر وقضم الأظافر، وقلقه المستمر، والهلوسات السمعية الناتجة عن ضعف السمع وذلك الطنين الذي ما فتئ يراوده، حتى وظيفته التي تمناها بينما كان ينظّف غرف معامل الكيمياء في المدرسة قد تخلص منها وجعل نفسه مختصاً كيميائيّاً يواعد فتياتٍ لم يتجرأ يوماً بأن يمنحهن رقمه، لمعاناته في التواصل مع الآخرين والوحدة الشديدة التي شعر بها حتى آخر لحظات حياته: "ليس بإمكان جاك أن يكون وحيداً بعد الآن، ليس بإمكانه مواجهة الوحدة"
ويشير الكاتب إلى الندم الكبير والقلق الشديد الذي ظل يراوده إذ لم يمنح تلك الفتاة التي أعجبته في الحفلة رقمه؛ بعد أن كتبه على منديل ثم احتفظ به لنفسه، ليعود لاحقاً ويكتب عنها في مذكراته:
"كان منغمساً في أفكاره الخاصة .. وكانت هناك تلك الفتاة، هو، وهي، ونحن معاً في تلك الحفلة .. كما تمنى أن يلتقيها لاحقاً، كم تمنى أن تتكرر تلك الفرصة حتى يركض إليها، ويطلب منها أن يلتقيا ويتعارفا، ولكن هذا لم يحدث"
نعلم عندئذٍ المعنى المزدوج لعبارة "أفكر في إنهاء الأمور"، فهي تعكس أولاً الرغبة الشديدة التي تصورها لدى النساء اللاتي عرفهن في الابتعاد عنه وإنهاء العلاقات، الأمر الذي نلحظه في وصفه قلق حبيبته واستبدال اسمها باسم أخرى، غير أن للعبارة حقيقة مختلفة نجدها في اللحظة الأخيرة التي قرر فيها جاك "إنهاء الأمور" بإنهاء معاناته، ونلمس ذلك من انفصامٍ في الشخصية يجعله يحاور نفسه أخيراً بصورة مؤلمة، قبيل قراره بقتل شخصه وإنهاء دورة الألم.
عُرف جاك بكتابة مذكراته دائماً، وليست الرواية سوى قصة وجدها الرجل والمرأة في جيبه، وهو هناك مُستلقٍ غارقاً في دمه.
إنها تحفة فنية، يبدأ فيها السرد من حيث ينتهي، ويمضي في دوامات متتابعة تسلب لُب القارئ وعاطفته وتجعله يفكر مع الشخصيات ويشعر بها ومعها وكأن الأوراق ابتلعته وغدا جزءاً منها، إنها رواية عن الوحدة الموحشة التي تدفع المرء للتعبير عن نفسه بطريقته، واستطاع الكاتب التعبير عنها بطريقته المؤلمة جداً والمُحزنة، ورغم أن القارئ قد يتوه فيها، إلا أن عنايته بالتفاصيل ستُفهمه النمط العام للرواية وموضوعها. سيطوي القارئ آخر صفحاتها وهو يعلم أنه أمام عمل أدبي لا يمكن مقارنته مع غيره بسهولة، إنها ببساطة تُشعَر وتُقرأ مراراً ويُتفكر فيها وتُتأمل في كل مرة دون ملل.
أما الفيلم المقتبس عنها، بعنوان "I`m thinking of ending things"، فيجاريها في روعتها وحبكتها، غير أن العناصر البصرية والسينمائية فيه ضاهت روعة تفاصيل الرواية وجعلتها أكثر قيمة وشاعرية. لذلك لا بد من قراءة العمل ومشاهدة الفيلم السينمائي معاً، للوقوف على براعة العمل والطريقة التي ظهر بها.
إيان ريد، أفكر في إنهاء الأمور، ت. أميرة الوصيف، صفحة سبعة للنشر، 2021م، ص 190.
اسم الكتاب : أفكر في إنهاء الأمور (رواية)
اسم الكاتب: إيان ريد
ترجمة: أميرة الوصيف
دار النشر وعام النشر: صفحة سبعة للنشر (2021)
عدد الصفحات: 190