لقيطة إسطنبول.. و القصص التي نسجت في بعضها
كتاب >>>> روايات ومقالات
و تبدأ رحلتك عزيزي القارئ من اسطنبول، المدينة التي تتدلى على حافة المتوسط، في مجتمع يتأرجح بين الشرقية البحتة المتشبثة بتفاصيلها الصغيرة وعاداتها الخانقة أحياناً والغربيّة المتبلدة العواطف، التي تفرض عليك الجري اللانهائيّ وراء صورة الحياة المُتَخيّلة في عقلك الباطن.
و لعل عائلة قزانجي بحد ذاتها هي اختيار غير مألوف لتصف بها حياة مجتمعٍ ما. هذه العائلة التي يلفّها الغموض من كل جانب، بدءاً بلعنتهم الأزلية المتمثلة في موت ذكور هذه العائلة ضمن ظروف غامضة في سن الشباب ومروراً بتاريخهم المبهم في الفترة التي تلت قيام الدولة التركية مباشرة وانتهاءً بنساء هذه العائلة، الكائنات الغريبة اللواتي يبدون أحياناً وكأنهن قد أقسمن ألا يتفقوا على شيء في هذه الحياة، فجمعوا بين الأخت الكبرى التقية ظاهرياً الواثقة بموهبتها في قراءة الطالع التي تتفرد بها وسعيها لمساعدة الأخرين كجزء من رغبتها الدائمة بالتكفير عن ذنبٍ غامضٍ، إلى معلمة الثقافة القومية التي لا تحيد عن الصواب والغارقة في عالمها المجرّد من الألوان، مروراً بالأخت التي تعيش في عالم تحكمه المؤامرات والغموض والأمراض المنقرضة التي لا تصيب أحداً غيرها على هذا الكوكب، وأخيراً الأخت الصغرى، المتمردة و فنانة الوشوم الجميلة التي أنجبت إلى هذه المدينة لقيطةً جديدة تُضاف إلى هذه اللوحة النسائية و تضفي عليها مزيداً من التمرد والتناقض والعشوائية.
وهنا تتيح لك الرواية رحلةً مجانيةً في شوارع إسطنبول، فتجلس لتشرب الشاي الشهير وتتأفف من نظرات المارة الفضولية أو لا مبالاتهم التي لا تطاق أحياناً، تتجاوز البرك التي سببها المطر اللانهائي، وتدخل مقاهي تبدو وكأنها قد هربت من ثقبٍ كونيٍّ أسود وسقطت في أحد شوارع المدينة، فقط لتؤمن ملاذاً لأولئك المنبوذين، من العدميين والمتشائمين والفوضويين.
ويتاح للقارئ أن يطلع على قدسية الذكر في مجتمع يعاني من فجوةٍ حضاريةٍ ثقافيةٍ عميقة ، متجليةً في شخصية الأخ مصطفى، الكائن البليد الذي هجر حياته الشرقية بعد أن أرسلته عائلته إلى الولايات المتحدة الأميركية كمحاولة لخداع الموت وصرفه عن آخر ذكور العائلة، ولعل أصدق وأقسى جانبٍ اجتماعيٍّ متناول في هذه الرواية هو شعور الإناث في عائلة تشبه آل قزانجي بالنقص الدائم لكونهن إناث لا أكثر، لا تحيط بهن هالة الذكورة المهيبة التي تضفي على صاحبها نوعاً مميزاً من الاحترام المشوب بالتقدير، هالة لا يمكن اكتسابها وتكون محظوظاً فقط إن ولدت مباركاً بها.
ثم تعبر بك هذه الرواية إلى الجانب الاخر من العالم -الولايات المتحدة الأميركية- حيث تقطن عائلة أخرى مختلفة تماماً، عائلة تعتبر نفسها جزءاً من الشتات الأرمني الذي خرج إلى العالم بعد المجزرة بحثاً عن ملاذٍ يبنون فيه كياناً لأولادهم وأحفادهم بعيداً عن دماء الأجداد، ويبرز في هذه العائلة تمسكهم الفولاذي بإرثهم الحضاري، يقبع خلفه خوفهم الدائم المتوارث من ضياع أخر آثارهم في هذا الكوكب رغم مرور عشرات السنين على نهاية الصراع الدموي الذي طال الجالية الأرمنية في الدولة العثمانية وقيام دولةٍ أرمنيّةٍ مستقلة تنمو وتتطور يوماً بعد يوم، فنتعرف على عائلة تشكمكجيان، عائلة يسودها الحب اللامشروط والرغبة الدائمة في حماية بعضهم البعض، حتى بعد زواج ابنهم الحبيب من فتاة أميركيةٍ غريبة، لم يتمكنوا من قبولها كواحدة منهم واعتبروها دائماً غريبة لن تنتمي يوماً لاتحادهم اللامرئي، فتظهر شخصية الجدة الناجية من المجزرة، امرأةٌ حديديةٌ استطاعت أن تجابه القدر وتواجهه نداً لند، تعد نفسها عرابة العائلة وأقوى أقطابها، على العكس من الحفيدة الشابة أرمانوش، القارئة النهمة والباحثة الشجاعة التي قطعت آلاف الأميال فقط لتشعر بقوميتها الحقيقية ولتلامس جذورها في أرض أجدادها.
و لا يغيب عن هذه العمل الجانب التاريخي، وإن كنا لا نستطيع اعتباره مرجعاً شاملاً موثوقاً لسنوات الألم والبؤس التي عاصرت المذبحة الأرمنية وتلتها، لكنها تسلط الضوء بشكلٍ جريءٍ على حالة الانفصال التي يعيشها المجتمع التركي عن هذا الحدث التاريخي، الذي ما يزال وحتى يومنا هذا يعتبر وصمة عار في تاريخ الإنسانية جمعاء، مما قد يثير دهشة القارئ في مرحلة من المراحل نظراً لكون المجتمع التركي مجتمعاً محافظاً بشكل ما وشديد الفخر بتاريخ دولته التي اعتبرت في وقتها كأحد أعمدة القوة و النفوذ في المنطقة.
وقد يكون أحد أهم نقاط القوة في هذه الرواية قدرتها على إيضاح وجهات نظرٍ لا تزال عصية الفهم على الكثيرين، سواءً بطرحها لحقيقة بحث الجميع عن الانتماء لشيءٍ ما، مهما اختلفت أديانهم أو قومياتهم أو مجتمعاتهم، فهم في بحثٍ دائمٍ عن دائرة بشريةٍ صغيرةٍ تحتويهم بكل عيوبهم ومزاياهم، وتدفئ صقيع أرواحهم الضائعة.
كذلك تتناول الرواية وبطريقة غير مباشرة السعي الدائم للجيل الشاب في هذا العالم لإيجاد ترياقٍ للتمزق الذي يعيشه، جيل يُطلَب منه يومياً أن يتشبث بماضيه كجزء من حاضره ومستقبله وهويته، بينما تقوده رغبة عارمة في نفس الوقت للانعتاق من كل هذه الفوضى والدماء والتخلص من ثقل السنوات التي تقبع فوق رأسه وتذكره دائماً وأبداً بالتوقعات المطلوبة منه كفرد منتمٍ إلى تجمع بشريٍّ موسوم بعلامات فارقة تميزه عن غيره، هذا الجيل الذي تتخلّل حياته بأكملها فكرة الخفة في شكل فراغٍ لا معنى له، و يتمثل وجوده المبتذل كأكذوبةٍ جميلةٍ تساعده على تحدي حقيقة الموت والفناء.
في النهاية، إن كنت تبحث عزيزي القارئ عن فرصةٍ للغوص في بحر المجتمعات الإنسانية المخيف، لا تتردد في إعطاء هذه الرواية فرصة، فقد تفتح عينيك على زوايا أخرى في هذه العالم تتنفس هواءها الخاص و تتعاطى مشاعرها الخاصة و تتعامل بنوعها الفريد من الحب، وحاول أن تبقى حيادياً عند مرورك بهذه النماذج البشرية كلها، قد تبدو غريبة الأطوار أو بليدةً أو حتى متحجرة العواطف لكنها جميعاً قد أخذت حصتها العادلة من المأساة والحب والسريالية في هذه الحياة.
الكتاب: لقيطة إسطنبول
الكاتب: أليف شافاق
نشرت عام 2006 و صدرت النسخة العربية عن دار الأدب عام 2013
عدد الصفحات: 423