مراجعة رواية "مذكرات قبو": العالم في غرفة صغيرة
كتاب >>>> روايات ومقالات
تُعدّّ رواية "مذكرات قبو" من أبرز أعمال دوستويفسكي الأدبية؛ إذ تتألف من فصلين رئيسين، وقد طُرٍحت أولَ مرةٍ عام 1864م، وتدور أحداث الرواية عن رجلٍ يختبئ في قبوٍ معتم، ليعيشَ في داخله ويكتب مذكراته وأفكاره عن العالم الخارجي، فهو يتجرّب من خلال هذه العزلة مفهومي الخير والشر، ليصبحَ القبو مأوىً له مع شخصياتٍ أخرى حاولت التقرب منه، ولا يقتصر دور القبو في هذه الرواية على أنه مساحةٌ مظلمة فحسب، بل يمثل بيتاً لكل فرد رفضه المجتمع وأقصاه بطريقة ما.
"بالمناسبة، عن أي شيء يمكن لامرئ شريف أن يتحدث، بمتعة كبيرة؟
الجواب: عن نفسه
إذن أنا كذلك سأتحدث عن نفسي"
الفصل الأول من الرواية جاء بعنوان "في قبوي"، يمثل هذا الجزء حواراً فلسفيَّاً مكثّفاً يبحث في الوجود ويصفه، فالبدء من الذات والتي كانت نقطة الانطلاق الأساسية لهذا العمل، ومنها توسّع الكاتب في وصف الخارج والمحيط بدءاً من تحليل الشخصيات البشرية وصولاً لتبرير تصرفاتهم.
ويشكّل مفهوم اللذة محوراً بارزاً في هذا العمل، باعتبار أن البحث عنها هو المحرّك الأساسي لحدوث أي فعل أو تصرّف، يرى الكاتب أن الوصول إلى اللذة يختلف من شخص لآخر، وهذا يعتمد على سلوكهم المعرفي ووعيهم، ليغوص بعدها في تحليل النفسيات ويوضح كيفية تأثير الرغبات والانتماءات الشخصية على تصرفات الأفراد ومن ثمَّ المجتمع.
إن هذا الحوار يتيح للقارئ فهماً أعمق عن حاضره وماضيه والتأثيرات التي شكّلت شخصيته، ليعكس الفصل الأول من الرواية تعقيد طباع البشرية وكل ما يرافقها من تفسيرات للألم والوجود والغاية من الحياة.
"إذ لو لم يشعر المرء بلذة، لما عبّر عن ألمه بالأنين "
ويحمل الفصل الثاني من الرواية عنوان "عن الثلج الذائب"، في هذا الفصل انتقل دوستويفسكي من "الحوار الذاتي" وتوجّه نحو "الحدث"، ومع ذلك فقد احتفظ بالإيقاع السردي البطيء الذي ساد في الجزء الأول، ويبدأ بطل الرواية بالتفاعل مع الشخصيات الأخرى، مما يكشف عن تناقضات كبيرة داخله، فيحاول وعلى نحوٍ مستمر تبريرَ مشاعر الزهد والعدمية تجاه ما يحدث له؛ ساعيَّاً لتقديم نفسه بطلاً على حساب الآخرين.
إن معظم شخصيات الرواية تتشابه في هوسها بالتعالي والسيطرة على الرغم من هشاشة خلفياتهم النفسية، لقد أحال هذا التنافس أي تفاصيل يومية إلى صراع موجّه إما مع الذات أو مع الآخر، ويقدّم هذا الجزء نظرة نقدية للتفاعلات الاجتماعية والنفسية؛ كاشفاً عن التشابكات المعقدة التي تحدث بين الأفراد في أثناء محاولاتهم تحقيق السيطرة والسلطة.
"قد يحدث أن يعذّب أحدٌ أحداً لا لشيء إلا لأنه يحبه"
تنطوي رواية "مذكرات قبو" على رمزية عميقة تتناول قضايا الحرية والعزلة الاجتماعية، ويُقدم دوستويفسكي القبو المظلم منبراً للتأملات الفلسفية والأخلاقية، ويجد شخصية الرجل الذي يختبئ داخله رمزاً للفرد الذي يسعى للابتعاد عن قيود المجتمع وتوجيهاته، ويشدد على أن القوة الحقيقية تكمن في قدرة الفرد على اختيار طبيعته الإنسانية، والتغلب على العوائق الاجتماعية مهما بدت عنيدة.
المصدر:
فيدور دوستويفسكي. مذكرات قبو. ت: أحمد الويزي. المركز الثقافي العربي. 2014م. ص208.