نظام التعليم في رومانيا ما بين الشيوعية وتشاوشيسكو
التعليم واللغات >>>> التربية والتعليم
إذا كانت الإجابة "نعم"؛ فما الأسباب التي قد تدفع إلى ذلك؟
سنبدأ معكم رحلةَ استكشاف أهم المراحل التي مرَّت بها رومانيا في السياق التعليمي منذ منتصف القرن الماضي.
التعليم ورومانيا قبل تشاوشيسكو:
لقد كان للتاريخ الشيوعي لرومانيا تأثيرٌ عميقٌ في مختلف جوانب الحياة اليومية، من السياسة إلى الاقتصاد وحتى التعليم. فلا تزال الأفكار والمبادئ -التي ترسَّخت في خلال حكم بعض قادة تلك المرحلة- تؤثُّر في المجتمع الروماني اليوم، خاصة في القرارات المرتبطة بنظام التعليم، مثل المناهج الدراسية وأساليب التدريس والمعايير الأكاديمية (1).
كان أحد أهم التغييرات التي ساهمت في صياغة شكل النظام التعليمي الروماني لفترة مُهمَّة من الزمن إصدار السلطات الشيوعية في رومانيا في الثالث من آب/أغسطس 1948 قانونًا لإصلاح التعليم، وهو الذي ألغى المدارس الخاصة وتخلَّى عن الإرث التربوي التقليدي الذي وصِفَ بـ "الرجعي". وعلى إثره أصبحت الدعاية الشيوعية مُنتشرة على نطاق واسع في النظام التعليمي؛ إذ أُعيدَت كتابة الكتب المدرسية لتعكس الفكر الماركسي-اللينيني (Marxist-Leninist).
لقد غيَّرَ الشيوعيون هيكلية الجامعات والمؤسسات التعليمية العليا بهدف تشكيل جيل جديد من الأطفال والطلاب يتَّسم بالطاعة والخضوع بما يخدم المجتمع الشيوعي. فجرى القضاء على استقلالية الجامعات وطُرِدَ عديدٌ من الطلاب من مدارسهم وجامعاتهم، خاصة في الفترة بين عاميِّ 1952 و1953.
(2)
إذ ألقت الهيمنةُ السوفيتيةُ في أوروبا الوسطى والشرقية بظلالها على نُظُم التعليم في تلك البلاد، فاتَّبعَت نهجًا يُركِّز على التعليم والبحث العلمي وتطوير التكنولوجيا بهدف تعزيز تفوُّق المجتمع القائم على الأيديولوجية الشيوعية. وعلى الرغم من ذلك؛ أتى وقت شعر فيه كلٌّ من الرئيسَين غيورغي غيورغيو-ديج (Gheorghiu-Dej) ومن بعده نيكولاي تشاوشيسكو (Nicolae Ceauşescu) بعدم حاجتهم إلى الوصاية السياسية السوفيتية، وعبَّروا عن رغبتهم هذه بالتحرُّر من تلك الوصاية من خلال ما عُرِفَ بإعلان أبريل (April's Declaration) عام 1964 (2).
حكم تشاوشيسكو وتسييس التعليم:
كان عام 1964 غنيًّا بالتغيُّرات المُهمَّة؛ إذ بدأ مسؤولون وخبراء في علوم التربية بالمطالبة بقانون تعليم جديد، ليستغلَّ نيكولاي تشاوشيسكو هذه المطالب بعد توليه السلطة عام 1965، وليشرع بالترويج لفترة حكمه بصفته بديلًا عن فترة حكم غيورغيو-ديج التي شهدت تجاوزات واعتمادًا مُفرطًا على اللغة الروسية في المدارس (2). ليبدأ عصرٌ جديدٌ سيغيُّر تاريخ رومانيا ببصمة ستحتاج عقودًا كي تُمحى؛ فقد أخذ نيكولاي تشاوشيسكو تدريجيًّا في إزاحة مُنافسيه الرئيسيَّين والسيطرة على المناصب الإستراتيجية في الدولة، حتى أصبح بحلول عام 1974 رئيس مجلس الدولة والقائد الأعلى للجيش. استغلَّ تشاوشيسكو هذه السلطة لترسيخ حُكمه مُعتمدًا على دائرة من الموالين، وقاد البلادَ في خلال واحدة من أصعب فتراتها. اتَّسم نظامُه بالاستبداد والفساد والمحسوبية، مع تجاهلٍ واضحٍ لاحتياجات الشعب؛ وهو ما أعاد إنتاج ملامح الأنظمة الفاسدة التي سبقت الحرب العالمية الثانية في رومانيا.
كانت أفكار تشاوشيسكو المُتطرِّفة عن إدارة الدولة مزيجًا من الماركسية المشوَّهة والقومية المتطرِّفة. وعلى الرغم من ذلك؛ فقد حَظِيَ ببعض القبول من الدول الغربية بسبب رفضه للسياسات السوفييتية. إضافة إلى أنه اعتمد على سياسة القومية المُتطرِّفة واستخدم الإرهاب والسجن لإجبار المواطنين على دعم سياساته، مُدَّعيًا أنَّها تصبُّ في مصلحة البلاد. أما المعارضون لنظامه؛ فقد واجهوا عقوبات قاسية تضمَّنت المُضايقات وخفض الرَّواتب والنقل القسري والإقامة الجبرية إضافةً إلى السجن (1) لتواجه السلطات الشيوعية في رومانيا مُشكلة نقص الكوادر الأكاديمية في أعقاب عام 1965. وعِوضًا عن محاولة حلِّ هذه المشكلة؛ وجَّهت السياسات تركيزها على تطوير محتوى المناهج الدراسية. وفي عام 1966؛ أُعدَّت دراسةٌ تضمَّنت مراجعات لمناهج التعليم العالي، مع التركيز على تصحيح التشوُّهات التي أُدخلت على المواد الدراسية بعد عام 1948، مثل التاريخ والأدب. وكانت تلك التعديلات مُستوحاةٌ من إعلان الحزب الشيوعي في نيسان/أبريل 1964، مع محاولات لتطبيق بعض جوانب اللامركزية واستقلالية الجامعات، لكنَّها قُوبلت بالرَّفض وبمعارضة من المشرفين الأيديولوجيين والبيروقراطية الحزبية لأسباب أيدولوجية ومالية بسبب طابعها "الليبرالي" وتأثيرها الغربي. وعلى الرغم من تلك التأجيلات والمناوشات؛ أُصدِرَ قانونٌ تعليميٌّ جديدٌ عام 1968، حاول إيجاد توازن بين العلوم الطبيعية والإنسانية، وشجَّع تدريس اللغات الأجنبية كالفرنسية والإنكليزية على حساب الروسية.
على الرغم من أنَّ القانون الجديد كان أقلَّ تسييسًا مقارنة بقوانين 1948 و1978 فيما بعد؛ إلا أنَّه حافظ على التزامه بالأيديولوجية الشيوعية، فقد نصَّ على ضرورة تشكيل نظرة مادية جدلية للطبيعة والمجتمع لدى الطلاب. وعلى الرغم من بعض النجاحات التي حقَّقها هذا القانون في تحسين المناخ التعليمي بتخلُّصه من عديدٍ من مظاهر الستالينية؛ إلا أنَّه سرعان ما شعر تشاوشيسكو بأنَّ القانون الجديد يُضعف سيطرة الحزب على النظام التعليمي. فقدَّم عام 1971 ما عُرِفَ بأُطروحات تموز/يوليو (July Theses) التي مهَّدت لتغيير قانون 1968. ليأتي عام 1978 الذي فرض تشاوشيسكو فيه قانونًا جديدًا يهدف إلى تعزيز نظام التلقين الحزبي وإعادة السيطرة الكاملة للحزب على التعليم (2).
ركَّز ذلك القانون على بناء ما سُمِّيَ بـ "الإنسان الجديد" وفق المفاهيم الشيوعية، مع التأكيد على التعليم المهني والصناعي لدعم الصناعات الثقيلة. فرض القانونُ أيضًا التزامات سياسية على الكوادر التعليمية، وأسَّس أدوات جديدة للسيطرة مثل "مؤتمر التعليم والتنوير" و"المجلس الأعلى للتعليم" (2).
كيف استخدم تشاوشيسكو القومية الرومانية في التعليم لتعزيز حكمه؟
بنظرة خاطفة إلى التاريخ؛ نرى أنَّ كثيرًا من الأنظمة الاستبدادية تتَّبع منهجَ العودة إلى أمجاد الماضي رغبةً منها في إظهار عراقة الأُمة وإبرازها؛ الأمر الذي لا يُعدُّ حالةً فريدةً، بل تكرَّر عبر العصور. على سبيل المثال: حاول موسوليني (Mussolini) إحياء عظمة الإمبراطورية الرومانية (The Roman Empire) في إيطاليا في خلال ثلاثينيات القرن الماضي، كذلك ركَّز الفرنسيُّون على تدريس أصولهم الغالية (The Gauls) في المدارس، على الرغم من وجود طلاب غير أوروبيين في الصفوف.
أما الرومانيُّون (Romanians)؛ فقد ارتبطت الهوية الوطنية بتاريخ مملكة داتشيا (Dacia) القديمة وزعيمها الشهير بوريبيستا (Burebista). ولم يكن الرئيس الروماني نيكولاي تشاوشيسكو بنظامه الإشتراكي حالةً استثنائيةً على الإطلاق، فقد استخدم هذه الرموز التاريخية لتبرير سياساته، فكانت هذه التفسيرات تخدم الزعيمَ والحزبَ أكثر من الشعب. لتُفرَض فيما بعد -في خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي- رؤية محدَّدة للتاريخ الوطني تُؤكِّد أنَّ الشعب الروماني تشكَّل في الأراضي الحالية (رومانيا) دون أي تغييرات حدودية، فكَثُر الترويج لمصطلح الداتشية (Dacian) لدعم الهوية الوطنية في المجالَين التاريخي والسياسي؛ وهو الأمر الذي ساهم كثيرًا في بناء هوية قومية متينة (3).
فركَّز الحزب الشيوعي على تعليم الأطفال وغرس قيمه فيهم عن طريق مُنظَّمات مثل الرواد (The Pioneers) وصقور الوطن (Homeland's Falcons)، وظهر هذا بوضوحٍ في القصص المصوَّرة التي نشرتها مجلات الأطفال الشهيرة في ذلك الوقت التي كانت أداةً دعائيةً تهدف إلى تعزيز الفكر الشيوعي وغرس مبادئه في الأجيال الناشئة (3).
فمثلًا: صًوِّرت شخصيةُ ديسيبال (Decebal) بصفته بطلًا قوميًّا في قصة ديسيبال قائد الداتشيين (Decebal, hero of the Dacians) التي نُشِرَت في مجلة الأطفال "صقور الوطن" (Soimii Patriei) عام 1989. تحكي القصة عن مواجهة بين ديسيبال وأحد الجنرالات الرومان، إذ ينتصر فيها ديسيبال في المعركة لكنَّه يترك الجنرال الروماني على قيد الحياة ليحمل الأخير رسالةً إلى جنوده وإلى الإمبراطور الروماني بضرورة الانسحاب من داتشيا. وتنتهي القصة فجأة بجملة: "ثمَّ انسحب الرومان من داتشيا"؛ مما يُعطي الانطباع بأنَّ انسحابهم كان نتيجة شجاعة ديسيبال.
تُعزِّز القصة صورة ديسيبال كونه بطلًا قوميًّا يُقاوم الاستغلال ويُدافع عن سيادة بلاده، وهو ما يتماشى مع فكرة "عدم التدخُّل في الشؤون الداخلية" التي كانت الشيوعية في الثمانينيات تُروِّج لها بصفتها جزءًا من دعايتها السياسية (3).
كما رأينا؛ اتخذت السلطات الرومانية في عهد تشاوشيسكو تدابيرَ لتعزيز السيطرة الأيديولوجية على النظام التعليمي، فقد جرى التركيز على التعليم السياسي وغرس الفكر الشيوعي. وشملت هذه التدابير تغييرات قانونية تحدُّ من استقلالية المؤسسات التعليمية، وإعادة تسمية وزارة التعليم لتصبح "وزارة التعليم والتوجيه العام"؛ مما يعكس الطبيعة السياسية للتعليم. كذلك حُظِرَت الأنشطة الطلابية إلا إذا كانت تحت إشراف اتحادات الطلاب المعترف بها رسميًّا (2).
سنتعرف في الجزء الثاني إلى العمل على التحديات التي واجهتها رومانيا في طريقنا نحو إعادة صياغة منهاج ونظام تعليمي جديد بعد انهيار الشيوعية.
المصادر:
2- Vasile C. TOWARDS A NEW LAW ON EDUCATION: SOME REFLECTIONS REGARDING THE COMMUNIST EDUCATIONAL POLICIES UNDER THE CEAUŞESCU REGIME. Revista Istorică. 2014;25(5–6):493–502. Available from: هنا
3- Hațegan C. THE POLITICAL AND IDEOLOGICAL EDUCATION DURING CEAUȘESCU’S REGIME. STUDY CASE: THE ANCIENT HISTORY TEACHINGS FOR CHILDREN REFLECTED IN THE ’80S COMICS. In: BOLDEA I, Sigmirean C, editors. DEBATING GLOBALIZATION Identity, Nation and Dialogue. Tîrgu Mureş, Romania: Arhipelag XXI Press ; 2017. p. 292–301