في ذكرى ميلاد رحالة العصر الوسيط، إبن جبير الأندلسي
التاريخ وعلم الآثار >>>> التاريخ
هو محمد بن أحمد بن جبير بن سعيد بن جبير بن محمد بن سعيد بن جبير بن محمد بن مروان بن عبد السلام بن مروان بن عبد السلام بن جبير من بني ضمرة من قبيلة كنانة المضرية العدنانية. ولد في بلنسية أو فلنسيا في شرقي الأندلس (إسبانيا) على شاطئ بحري، لربما لا نعرف الكثير عن طفولته ومن ألهمه حب الرحلات هذه، لكن بيئته هي – برأينا – من ألهمه في شق طريق الأسفار ومعرفة الحاضرة والبادية، فمن الممكن أنه تربى بين البحارة ونهل منهم علوم الفلك والاتجاهات والاستدلال وغيرها من العلوم، أو لربما قصّوا عليه حكايات المغامرات البحرية، فطرب شوقاً إلى حياة مشابهة، هناك الكثير من التكهنات المنطقية، فبيئة ساحلية وخط بحري قوي يمر من فلنسيا كاف بدرجة واضحة لتهيئ ابن جبير لرسالة عظيمة في المستقبل.
استدعاه أمير غرناطة في سنة 1182م لمعرفته الكبيرة ولعلمه الغزير، فعينه وزيره الأعلى وفي السنة التالية ذهب لأداء فريضة الحج في مكة المكرمة، فقصد طريق البحر ثم وصل الاسكندرية، تركت تلك المدينة ومنارتها أثراَ بليغاً في نفس ابن جبير، تلك البنية الرائعة لمدينة يشاهدها للمرة الأولى، ومن هناك ستبدأ رحلته المعروفة بـ "رحلة إبن جبير".
أدب الرحلات يمتاز بأنه أدب جغرافي علمي بحت، وكم استفدنا من تلك الأوصاف التي تركها خلفه ابن جبير وابن بطوطة وابن واصل وغيرهم من الرحالة، ولكن ابن جبير له خصوصية هنا، إذ أن رحلته كانت ستمر بمدن في أبهى عزها وعراقتها ضمن فترة حالكة السواد ومليئة بالأحداث المهمة، فالحملات الصليبية في الشام والأندلس في أوج صراعها، وهكذا تنقل بين مدينة وأخرى قد يودي بحياة الرجل وبعلمه، فتلك الأخطار في البر والبحر ما كانت لتثني بطلنا عن المضي قدما في تحقيق حلمه.
وما إن أنهى ابن جبير فرضه في مكة المكرمة من ربيع عام 1183، حتى اتجه شمالاً واصفاً كل مدينة يزورها بقلمه الفذ، فبعد الفراغ من أرض الحجار اتجه صوب بغداد، ومن ثم إلى الموصل فحلب، ومن بعدها دمشق ثم وطئ الأرض المقدسة حيث مملكة السماء الصليبة في القدس، ومن البحر اتجه صوب صقلية، استقر فيها فترة من الزمن قبل أن يقفل عائدا إلى الأندلس في سنة 1185 وبين يديه كتاب أسفاره الشهير.
سنتان من عمره كانت كافية لوصف أعرق المدن في الشرق الأوسط والبحر المتوسط، لقد كان كتاباً جامعاً رائعاً بكل المواصفات، ومن طيب ما وصف به دمشق أنها "أكثر مدن المعمورة وداً"، وأنها "فردوس الشرق"، ووصف أراضي الصليبين وقذارتها، فكان يمقت كل أرض يحلون بها ويلعن ملوكهم، ذلك أن أوروبا في ذلك الزمن كان بها من القذارة وقلة النظافة ما يبدو للناظر من غير عناء.
وعلى خطا المسعودي، اتجه صوب صقلية ووصف حال ما تبقى من المسلمين فيها، والتقى هناك بابن هاجر، وهو رجل رفيع المستوى في مسينا، حيث كان غنياً يحمي الأقلية المسلمة في صقلية بماله، لقد كان وصف ابن جبير لمجتمع المسلمين في صقلية في غاية الأهمية، فلقد بقيت المصادر نادرة في هذا الخصوص، حيث كان المسلمون هناك يعانون من الاضطهاد ولا أحد يعلم بحالهم وذلك لانشغال الجميع بالحروب الصليبية، مفنداً في كتابه إيجابية الأغنياء المشابهين لابن هاجر.
وفي وصفه أيضا إيولايان البركانية قبالة سواحل إيطاليا، وصف ثورة بركان سترامبولي الشهير جدا، وكتب عن أصوات انفجاراته وألسنة اللهب والدخان الصاعدة منه، ووصف بالريمو أيضا في توسكانيا، وقال أنها "عاصمة الجزر" تجمع بين العز والثروة، وتحدث عن المدينة وكنيستها سان كاتالدو فوصف الحدائق والساحات والأنهار والينابيع، مؤكدا بأنها بنيت على طراز قرطبة، متحدثا ولأول مرة عن الموضة التي كانت رائجة في ذلك الزمان ألا وهي عباءات المسلمات الأندلسيات.
وبعودته سنة 1185 إلى الاندلس، رأى الناس هناك بحال غير أي حال، إنها حروب الاسترداد، لقد شعر بدنو أجل بقاء المسلمين في غرب أوروبا، فقرر العودة إلى حيث بدأت رحلته، ألا وهي الأسكندرية، حيث قضى هناك ما تبقى من حياته، ليتوفى سنة 1217 في 29 تشرين الثاني تاركاً خلفه علم في الجغرافية وأدب الرحلات وشعرا يلهم القارئ بعظمة وحكمة ابن جبير.
شعره في دمشق:
يا دمشق الغرب هاتي ك لقد زدت عليها
تحتك الأنهار تجري وهي تنصبّ إليها
وأليكم ختاما أجمل ما قاله من شعر في وصف الأسفار:
يا زائرا لم يقض أن ألقاه دهر يعوق عن الذي أهواه
ضنّ الزمان وقد سمحت فلم يكن من زرته للحين من معناه
يا ويحه لعظيم أنس فاته إن لم يذب كمدا فما أقساه
لما وجدت فناءَ داري عاطراً أيقنتُ أنك قد وطئت ثراه
وطلبتُ للتقبيل فيه موضعا فإذا الحيا المنهلّ قد عفّاه
لم يبق من أثر لوطئك في الثرى فجعلت ألثم حيث نمّ شذاه
حتى الغمامٌ يعوق عمّا أبتغي يا ما أكابده وما ألقاه
خريطة الرحلات:
أسفار ابن جبير:
مراجع:
هنا
هنا
مصدر الصورة:
هنا