دراسة جديدة تعيد النظر بأصل نشوء الحياة على المستوى الكمي
الكيمياء والصيدلة >>>> كيمياء حيوية
في عام 1953 قام العالم ميلر بتجربته الشهيرة في محاكاة الظروف السائدة عند بداية تشكل الأرض ولكن ضمن المختبر. فقام بكهربة مزيج من الماء والغاز كمحاكاة للبرق والغلاف الجوي الأرضي وحصل نتيجتها على حساء بني من الأحماض الأمينية. نتيجة لعمل ميلر ولدت الأبحاث الحديثة في مجال الكيمياء ماقبل الحيوية أي دراسة العمليات الكيميائية السائدة قبيل ظهور أشكال الحياة على الأرض.
على مدى 60 عاماً بحث العلماء عن مصادر طاقة أخرى (غير البرق) يمكن أن تكون قد ساهمت في التأثير على بناء وحدات الحياة الأساسية. مصادر طاقة كالأشعة فوق البنفسجية والاصطدامات النيزكية والفتحات الحرارية في أعماق المحيط. سنتحدث بالتفصيل في مقال قادم عن تجربة ميلر وما بعدها وعن علم نشوء الحياة. أما الإنجاز الجديد الذي قدمه أنطونية ماركو سايتا وزملاؤه في جامعة بيير وماري كوري في السوربون في باريس باريس، أنهم أعادو دراسة تجربة ميلر المتعلقة بالحقول الكهربائية التي طبقها ولكن من وجهة نظر كمومية.
فقد طبقوا نموذجاً كمومياً جديداً لدراسة تأثير الحقول الكهربائية على الماء وهو ما لم يتم تطبيقه سابقاً. كان السؤال المحوري الذي اعتمدو عليه في بناء بحثهم ما إذا كان يمكن النظر إلى تجربة تفريغ الشحنة الكهربائية الشهيرة من وجهة نظر كميّة؟ كما أن المنهج الذي اتبعوه في التجربة سيجعلهم قادرين على تتبع الذرات والجزيئات عبر حركتها وفي كل لحظة وربما الحصول على رؤية جديدة لدور الكهرباء في تجربة ميلر. وقد نشرت نتائج بحثهم هذا الأسبوع في مجلة Proceedings of the National Academy of Sciences.
بدأ ساييتا وزملاؤه تجربتهم بمحاكاة حاسوبية لمزيج من الكربون والنيتروجين والأوكسجين والهيدروجين مطبقين عليه حقلاً كهربائياً، وكما هو متوقع فقد حصلوا على الغليسين glycine وهو أحد أبسط الأحماض الأمينية التي تشكل أساس بناء البروتينات وأحد أكثر العناصر التي نتجت في تجربة ميلر الأصلية. ولكن مقاربتهم هذه أدت لنتائج غير متوقعة. بشكل خاص كان النموذج الذي استخدموه يشير إلى أن تشكل الأحماض الأمينية في تجربة ميلر رما يكون قد حدث عبر مسار كيميائي أكثر تعقيداً. يكون الوسيط الأولي لاصطناع الحموض الأمينية عادةً هو جزيئة الفورمالديهيد formaldehyde ولكن محاكاتهم الحاسوبية أظهرت أنه عند تعريض التجربة للحقل الكهربائي فضل التفاعل وسيطاً مختلفاً وهو جزيئة الفورماميد formamid. وهذا يدل أن الفورماميد لعب دوراً أساسياً في تشكل الحياة على الأرض وربما في أماكن أخرى.
ولم يكن الفريق يتوقع ذلك إطلاقاً بل علموا لاحقاً بالعودة للأبحاث المنشورة أن تشكل الفورماميد يملك مدلولاً هاماً في الكيمياء ماقبل الحيوية. فقد ظهر مؤخراً في أبحاث أخرى أن الفورماميد مركب أساسي في اصطناع الـ RNA والغوانين guanine بوجود الأشعة فوق البنفسجية. كما لوحظ وجود الفورماميد في الفضاء وتحديداً في نيزك وكذلك في نجم أوّلي شبيه بالشمس. كما أظهرت أبحاث سابقة أن الفورماميد يمكن أن يتشكل نتيجة لاصطدام مذنب أو نيزك بالأرض بجانب عوامل أخرى. وهذا ما يمكن أن يكون قد حدث على الأرض وساعد على تشكل الحياة فاحتمال وجود مسارات جديدة لاصطناع الحموض الأمينية بدون أساس فورمألديهيدي هي فكرة رائعة وتكتسب تأييداً خصوصاً ضمن السيناريوهات التي تفترض أن عملية تشكل الوحدات الأولية لبناء الحياة نتجت عن عوامل كونية وليس أرضية فقط. ومن الممكن أن نعتبر أن وجود الفورماميد هو أوضح أثر للحموض الأمينية الموجودة على الأرض أو في مناطق أخرى في الكون.
جيف بادا الطالب السابق لدى ميلر والذي أمضى وقتا طويلاً في دراسة هذه التجربة شكك بدوره في نتائج فريق سايتا وفي مدى مطابقتها للتجربة الواقعية التي نتج فيها الفورمالدهيد بوفرة طاغية. ولكن سايتا من ناحيته يوضح أن الفورماميد غير مستقر أي من الممكن ألا يكون ميلر قد لاحظ وجوده في تجربته الأصلية. في المحاكاة الجديدة الذي نفذها ساييتا وفريقه نتج الفورماميد بشكل عفوي ثم تحول إلى ماء و سيانيد الهيدروجين أو اندمج مع جزيئات أخرى وكون الحمض الأميني الغليسين.
فكرة مهمة أخرى استنتجها الفريق من هذه المحاكاة هي أن الحياة من الممكن أن تكون نشأت على سطوح المواد المعدنية إذ أن معظمها تمتلك حقلاً كهربائياً قوياً بشكل طبيعي من الممكن أن يصل إلى 10- أو 20 ضعف قوة الحقل الكهربائي الذي طبق في المحاكاة. ولكن لتحقق هذه الشروط يجب أن تكون الجزيئات قريبة جداً لهذا الحقل الكهربائي لأن مداه محدود.
هذه الفرضيات التي نتجت عن تجربة ساييتا يمكن أن تغير نظرة علم نشوء الحياة للأمور وتجعله يعيد البحث في التفاصيل ويرتب أوراقه من جديد. هذا البحث الجديد الذي نشر في شهر ايلول 2014 يطرح أسئلة هامة في نظرتنا إلى نشوء الحياة ولكن تفاصيل هذا العلم والتجربة الأصلية لميلر والتحسينات التي طرأت عليها سنتركها لمقال جديد من إعداد الباحثون السوريون سننشره قريباً فانتظرونا.
المصدر: : هنا