سر انخفاض الذهب الأسود!
الاقتصاد والعلوم الإدارية >>>> اقتصاد
أما عنِ التاريخِ الحديثِ للبترول، فقد بدأ في القرنِ التاسعِ عشر مع اكتشافِ الكيميائي الاسكوتلاندي جيمس يونغ لعمليةِ تقطيرِ النفط، التي من خلالها يتم الحصولُ على الكيروسين (الغاز). بعد هذا بدأت صناعةُ النفطِ بالازدهارِ والتطور، وبدأت معاملُ التقطيرِ بالانتشار. ومع ظهورِ الآلاتِ الحديثةِ ومحركاتِ الاحتراقِ الداخلي زادَ الطلبُ على النفطِ بشكلٍ عام وعلى البترول بشكلٍ خاص. اليوم يشكلُ البترول مصدراً أساسياً للطاقةِ حولَ العالم، ومادةً أوليةً أساسيةً للعديدِ من الصناعات. تجدرُ الإشارةُ إلى أن 80% من النفطِ العالمي متواجدٌ في منطقةِ الشرقِ الأوسط، وأنّ 62% من النفطِ العالمي تنتجهُ كل من السعوديةِ، والإماراتِ، وقطر، والعراق، والكويت (ويكيبيديا).
أعتقد أن مجرد ذكرِ النفطِ اليومَ، بترافقُ مع ثلاث كلماتٍ رئيسية تتبادرُ إلى ذهن السامع وهي: الخليج، أمريكا والحرب، هذهِ الكلماتُ الثلاث تعبرُ عن معادلةٍ متكاملة، فدولُ الخليجِ هي الدول ذاتِ الحصةِ الأكبرِ من إنتاجِ النفطِ العالمي 62%، بينما أمريكا لها سياستها الخاصة التي تتبعها للحصول على ما تحتاجه من النفط
قد يتساءلُ البعض، أمريكا كغيرها منَ الدولِ المتقدمةِ التي تريدُ الحصولَ على مصادرِ الطاقة، فلماذا نركز في حديثنا عليها؟ إن السبب الذي يدفعنا لتخصيصها بالذكر، هوَ كونها الدولة صاحبةً العملةِ (الدولار) التي يقيمُ بها سعرُ برميلِ النفط. مما دفعَ البعض إلى إطلاقِ مصطلحاتٍ كـ "البترو دولار" والذي يطلقُ على الدولاراتِ المستخدمةِ لإتمامِ صفقات شراء النفط، ومصطلحُ "دولرة أسواقِ النفط" والذي يطلقُ على الاتفاقاتِ والمعاهداتِ التي تمت بين الدولِ المنتجةِ وأمريكا لتسعير النفط بالدولار. لكن ماذا يعني أن يرتبطَ سعرُ النفطِ بالدولار؟ إن هذا يعني أن على الدولةِ الراغبةِ بالحصولِ على النفط أن تحصل أولاً على الدولاراتِ اللازمةِ لتسديد ثمنِ النفط، طبعاً تحصلُ عليها من خلالِ الاقتراض، أو مبادلةِ سلعٍ أو خدماتٍ مقابلَ حفنةٍ من الورق الأخضر (راجع الحلقتين الثانية والثالثة من سلسلة ماهي النقود).
إنّ المتتبعَ لأسعارِ النفطِ يجدها متقلبةً ومتفاوتةً ارتفاعاً وهبوطاً من فترةٍ إلى أخرى، وذلك بناءً على عواملَ كثيرة تحكمُ هذا التغير، كالحروبِ، التحالفاتِ الدولية، حالةِ السوقِ وغيرها من العواملِ الأخرى. لكن التقلبَ المفاجيءَ في الأسعارِ في هذهِ الأيام أثارَ الذعرَ في كثيرٍ من الدول، خصوصاً تلكَ المنتجةَ للنفط، حيث أن أسعارَ النفطِ انخفضت بشكلٍ مفاجيء حتى وصلَ سعرُ البرميلِ الواحد إلى 58.67 دولار في ديسمبر من هذا العام (2014) بعدَ أن كانَ سعره 105.93 دولار في يوليو الماضي، إن ما تخشاهُ الدولُ المنتجة اليوم، هو أن يهبطَ سعر برميل النفط إلى الـ 40 دولار، مما يعني انخفاضاً حاداً في عوائدِ البلدانِ المنتجة مقابلَ بقاءِ تكاليفِ الإنتاج مرتفعة.
ياترى ما الذي يحدث؟ لماذا انخفضت أسعارُ النفطِ بهذا الشكلِ المفاجيء؟
هناكَ الكثيرُ من النظرياتِ التي قد تخطرُ على أذهاننا وعلى أذهانِ المحللين الإقتصاديين، أكثرها انتشاراً تأثيرُ الطلب والعرض على مستوى الأسعار، فما حدث في فيينا في 27 نوفمبر من العام الحالي 2014، من فشل أعضاء دول أوبك على الاتفاق على خفض إنتاجهم من النفط أدى لانخفاضٍ كبيرٍ في سعرِ البرميلِ الواحد، وذلك نظراً لزيادةِ العرضِ مقابل الطلب، كما أن ما أعلنته أمريكا في هذا الشهرِ عن ازديادِ انتاجها منَ النفطِ الصخري، أدى لزيادةِ الضغطِ على أسعار النفط مما دفعها للإنخفاض. هذا بالإضافة إلى تأثير ما أوردتهُ بعضُ التقاريرِ الأخباريةِ عن أن الولايات المتحدة الأمريكية على وشكِ الحصولِ على اكتفائها الذاتي، مما يعني انخفاضاً مستقبليا في طلبها على النفط المستورد، مما سيؤدي بالضرورةِ لزيادةٍ في العرضِ الذي يؤدي بطبيعةِ الحالِ لانخفاضِ الأسعار. لكن الأسباب الآنفة الذكر ليست الأسبابُ الوحيدةُ المؤثرة على كميةِ المعروضِ في السوقِ بل هناكَ أسبابٌ أخرى، مثلُ رفعِ الدعمِ عنِ المحروقات في بعضِ البلدان مثل ماليزيا ومصر على سبيل المثال، مما أدى لتراجعِ استهلاكِ المحروقاتِ في تلك البلدان، مما يعني وجودَ فائضٍ كبيرٍ في أسواقها (ليس للاقتصاد الماليزي ولا المصري الأثر الكبير على الإقتصاد العالمي، لكن القصد من ذكر هاتين الدولتين هو التمثيل لما قد يحدث في حالة ما إن طبقت دول أخرى مالوحت به من سياسة رفع الدعم عن المحروقات كالكويت، السودان والأردن وغيرها، حيث أن رفع الدعم سيؤدي لتراجع استهلاك المحروقات في تلك البلدان، مما يعني زيادة في المعروض النفطي) (رويرترز;، 2014) (صحيفة الطريق، 2014).
لكن قانونَ العرضِ والطلبِ ليسَ السبب الوحيد لانخفاض سعرِ النفط، إذ قد يكون ارتفاعُ سعرِ الدولار أحدَ أسبابِ انخفاضِ سعرِ النفط. ولكن كيفَ يكونُ ارتفاعُ الدولار سبباً في انخفاضِ سعرِ النفط؟ كما تعلمونَ أيها السادة، فإنّ هناكَ سلعاً دوليةً مسعرةً بالدولار حصراً، أي أنها تباعُ وتشترى بالدولار فقط كالنفط مثلا. مما يعني أنه في حالةِ ارتفاعِ الدولارِ مقابلَ العملاتِ الأخرى فإن أمريكا قادرةٌ على استيرادِ النفطِ بسعرٍ بخسٍ جداً، بينما تعاني الدولُ الأخرى من ارتفاعِ سعرِ النفطِ بالنسبةِ لها، وذلك بسببِ انخفاضِ قيمةِ عملتها مقابلَ الدولار. دعونا نضرب مثالاً على دولةٍ تستوردُ جميعَ استهلاكها البترولي من الخارج (اليابان). خلالَ السنواتِ من 2011 إلى 2013 كانَ متوسطُ سعرِ صرفِ الدولار بالنسبةِ للين يساوي 85.7 ينا، بينما كان متوسطُ سعرِ النفطِ في تلكَ الفترةِ 110.4 دولار للبرميل الواحد، مما يعني أن سعرَ البرميلِ الواحدِ بالين الياباني كان يساوي 9461 يناً، لكن عندما ارتفعَ سعرُ صرفِ الدولارِ مقابلِ الين في سبتمبر الماضي من هذا العام إلى 107 ين، وانخفضَ سعرُ البترول من 110.4 إلى 97.6 دولار عندها صارَ سعرُ برميلِ النفطِ الواحدِ يساوي 10443.2 ينا. أي أن اليابان صارت تدفعُ سعرا أعلى لبرميلِ النفطِ الواحد فمن 9461 إلى 10443.2 ين. إن ارتفاعَ سعرِ النفطِ بالنسبةِ لليابان والدولِ المماثلة لها، يعني بالضرورةِ انخفاضا ً في كميةِ استيرادها، مما يعني ازديادَ المعروضِ في الأسواق وانخفاضَ الأسعارِ أكثرَ فأكثر.
لكن لماذا ارتفع الدولار؟ بناءً على تقريرٍ لوكالة رويترز فإن المركزي الأمريكي يدرسُ رفعَ سعرِ الفائدةِ في الربعِ الثاني من العامِ الجديد 2015، مما زاد الطلب على الدولار، فأدى لارتفاعِ قيمتهِ أمامَ العملاتِ الأخرى. إنّ رفعَ سعرِ الدولار، وانخفاضَ قيمةِ النفط يفيدُ إلى حد كبيرٍ الولاياتِ المتحدةِ الأمريكية، التي ستحصلُ على النفطِ وغيره من السلع الأخرى مقابلَ دولاراتٍ أقل (لكن ليس على المدى البعيد، إذ أن ارتفاع الدولار يعني انخفاض صادرات الولايات المتحدة إلى الخارج) هذا أولا، ثانيا، إن التقلبات السعرية السوقية تلعب دوراً هاماً فيما يتعلق بالأوضاعِ السياسية الحالية، فانخفاضُ سعرِ النفط وارتفاعُ الدولار مقابل العملاتِ الأخرى، يؤثرُ سلبا على اقتصاداتِ بعضِ الدولِ الواقعةِ تحت العقوباتِ الأمريكية.
لكن أليسَ انخفاضُ أسعارِ النفطِ معَ بقاءِ تكاليف اخراجه ثابتةً يعني انخفاضَ عوائدِ للدولِ المنتجة؟ إذاً لماذا رفضت دولٌ أوبك خفضَ إنتاجها من النفط في اجتماعها الأخير؟ السببُ الرئيسي هو أن النفطَ يشكلُ العائدَ الأساسي لهذهِ الدول، فدولُ الخليجِ تعتمد اعتماداً أساسياً على ما تنتجهُ من النفطِ لتمويلِ نفقاتها، لذلكً فإنّ خفضَ الإنتاجِ يعني خفضاً في العوائد، مما يحتمُ على الدولة خفضَ نفقاتها ومصروفاتها العامة. السبب الثاني أنّ لكل دولةٍ من هذه الدول سياستها وأهدافها الخاصة، حيثُ أنهم غالباً لا يتفقونَ على رأيٍ واحد، فإن كانت إحدى الدولُ تريدُ رفعَ أسعارِ النفط، فإنّ دولةً أخرى قد ترفضُ ذلك، وتزيدُ من إنتاجها حفاظاً على السعرِ المنخفضِ إرضاءً للدول المستهلكة. حتى أنهُ بناءً على تقريرٍ أوردته صفحاتٌ على موقعِ بلومبرج ومواقع أخرى، فإنّ بعضَ الدولِ المنتجةِ (الكويت، السعودية والعراق) قامت بإعطاءِ خصوماتٍ على أسعارِ النفطِ (رغمَ انخفاض أسعاره) للدولِ المستوردة (دول آسيا وأمريكا) وذلكَ حفاظاً على حصتها من السوقِ العالمية.
هل هناك أسبابٌ أخرى أدت لانخفاضِ أسعارِ النفطِ عالميا؟ هل ستتحرك دول أوبك لوقف نزيف الأسعار هذا؟ وهل تتوقعُ أن تصلَ الأسعار لمستوى أدنى من ذلك؟ شاركنا برأيك.
المراجع:
1- هنا
2- هنا
3- هنا
4- هنا
5- هنا
6- هنا
7- هنا
8- هنا
9- هنا
10- هنا
11- هنا