الطيران فوق عش الوقواق..بوابة للحلم والتحليق!
الفنون البصرية >>>> عالم السينما والتلفاز
سنحاول أن نتجنب ذلك ما أمكن...
حين عَلِمت أن فلم"طيران فوق عش الوقواق" استمرّ عرضه في إحدى البلدان لمدة تزيد عن عشر سنوات، شعرت بالاطمئنان...فمشاهدتي لهذا الفلم والتي تجاوزت ال30 مرة هي حالة طبيعية.
لا يصنّف هذا الفلم في قائمة الأفلام ذات الميزانية العالية، أبطالهُ بمعظمِهم مجموعةٌ من الممثلين المغمورين( على الأقل في حينها).
إذاً ..ما الذي جعل من هذا الفلم "أيقونة سينمائية" وكيف تربّع الفلم لعقود طويلة على قائمة أفضل الأفلام!
إنّهم مجانين المصحة العقلية يتزعمهم بطل الفلم الممثل "Jack Nicholson." بدور Randall McMurphy الوافد الجديد إلى المستشفى والذي يقوم بقلبِ مزاجِ عنبرِ المجانين الذي يقطنه، ليمنحهم أجنحة للتحليق فوق أنظمة وقيود المصحّة وليتمرد على الممرضة"Nurse Ratched" التي تعكس بدورها قسوة المؤسّسة، تسلّط الإدارة، وصرامة القوانين.
جاك نيكلسون النجم الشهير، يؤدّي في هذا الفلم دور رجل في العقد الثالث من العمر. يفتتح بدخوله إلى المصحّة المشهد الأول من الفلم، فهو الوافد الجديد القادم من السجن و الذي أُرسِل للمصحة للتأكد من سلامته العقلية. يخيّل إلى " McMurphy" أنّ المصحة ستكون أفضل حالاً من السجن، وأنّ إقامته في ذلك المكان ليست سوى نزهة لطيفة عابرة.
الجميع يعرف أن " McMurph" لا يشكو من خطب، قد يبدو خطيراً، متمرّداً..لكنّه ليس مجنوناً بالتأكيد..لكن كيف انتهى الأمر به إلى أن يُجنّ في مكان أدعى بهِ أن يشفي المجانين !
في ذلك المستشفى التقليدي الطابع، يقيم نزلاء يبدو عليهم الجنون، يتخبّطون في طابق حجري بنوافذ حديدية ومخارج مُحكمة الإغلاق..يبدو المكان وكأن عقارب الزمن قد توقّفت فيه.
تُحكم الممرّضة الرئيسية Nurse Ratched والتي لعِبت دورها الممثلة Louise Fletcher المكان بقبضة حديدية، يبدو وجهها دوماً خالياً من التعابير، قسمات وجهها الباردة تنم عن قسوة. واحدة من مهماتها الرئيسية تتجلّى في عقدِ جلسات علاج من خلال أحاديث مفتوحة تناقش مشاكل المرضى، خاصةً تلك المشاكل التي أودت بهم إلى المصحة العقلية..
يتبين لاحقاً أن المرضى ليسوا إلّا "نزلاء" بمعنى أنهم قادرين على الخروج متى أرادوا ذلك، هم يتواجدون في هذا المكان بكامل إرادتهم باستثناء قلّة قليلة منهم! يستغرب الوافد الجديد الأمر..كيف يمكن لهؤلاء الذين يتذمّرون طوال الوقت من المكان الرهيب، سوء المعاملة، ويتساءلون باستمرار عن شكل الحياة في الخارج! كيف لهم أن يتمنّون برغبة جارفة الفرار خارجاً ؟!!
-"ما الذي تفعلونه هنا! هل تظنّون أنّكم مجانين ؟!! أنتم لستم كذلك" .
كان " McMurph." هو النسمة التي حرّكت الجدول الراكد لهؤلاء..والذي ما لبث أن أصبح ريح قوية تحاول كسر كل ما يعترض طريقها إلى الخارج..إلى الحياة.
مع رفاقه المجانين يشن " McMurphy" أولى حروبه مع الممرضة حين رفضت السماح له برؤية بطولة العالم لكرة القدم..لكن ما الذي فعله ؟! الأمر في منتهى البساطة ..لقد أطلق لخياله العنان.
أمام شاشة تلفاز صغيرة مطفئة، يجلس غاضباً للحظات..بعد قليل يبدأ بحماسة متصاعدة بأداء دور المعلّق على المباراة..ليثور ويقفز ويصفق ويشجّع..يتحلّقون حوله بدهشة بالغة تتحوّل إلى فرح عارم وليشاركه الجميع متعة متخيّلة..هي أقصى ما يمكنهم فعله.
محاولات McMurphy"" في تحويل الحياة الراكدة إلى سيل جارف استمرت حين قرر تحويل النزهة الأسبوعية الرتيبة المقرّرة للمرضى إلى نزهة بحرية هو قائدها.
يتحول أولئك "المجانين" إنّ صح إطلاق تلك التسمية عليهم، في ساعة من الزمن إلى أشخاص طبيعيين، لكن ليس بفعل جلسات العلاج الوهمية والعقاقير المهدّئة، لقد استطاعMcMurphy"" أن يجعل كل فردٍ منهم قادراً على الابتسام بل القهقهة، ليعودوا و لأول مرّة منذ زمن طويل..إلى الحياة ولنفكّر نحن كمشاهدين مرّة أخرى في التشخيص الحقيقي للجنون.
تودي ممارسات " McMurphy." المستمرة إلى جعل إقامته إلزامية الأمر الذي يدفعه للتصميم على الهروب..
في تلك المدّة التي قضاها بين أولئك "المجانين" يصبح أشبه بالمبشّر في أروقة المستشفى الذي اعتاد مرضاه على التسلّل، الابتسام خفيةً، وأداء ملذّاتهم البسيطة بالسر.
ستُدهش بأداء الممثلين حتى تكاد لا تصدق أنّه أداء تمثيلي! الدهشة، الابتسامة، الغضب، الامتنان .. المشاعر الإنسانية خرجت بتلقائية وانسياب على وجوه أتقنت أدوارها حتى أنّها بقيت تقوم بأدائها وراء الكواليس وليس فقط أمام الكاميرا.
أجاد "جاك نيكلسون" دوره، حتّى ظن البعض أن مشهد تلقّيه للعلاج الكهربائي هو مشهد حقيقي.
كما أجاد مخرج العمل"Milos Forman " تحويل الرواية "الطيران فوق عش الوقواق" للكاتب"كين كيسي" إلى فلم صُنّف في خانة الكوميديا السوداء حيث تحوّل مستشفى للمختلين عقلياً إلى صورة عن المجتمع الذي نعيشه. أبهر "فورمان" الجميع بطريقة إخراجه للفلم، التلقائية والطبيعية كانت السمة الأبرز عند مشاهدة هذا الفلم.
المخرج كان لديه ولع بتصوير مشاهد حقيقية، نقلت ملامح وردّات فعل طبيعية حتى أنّه اعتمد بكثافة على تصوير لقطات ردّة الفعل للممثلين حتى وإن لم يكن دورهم في الكلام، متحيّناً بذلك اللحظات المناسبة، ففي مشاهد مجموعة العلاج النفسي، هناك عشر دقائق تصوّر ملامح جاك نيكلسون رغم أنّه لا حوار له في ذلك المشهد..كانت مشاهد حقيقية انعكست بتلقائيتها على وجهه.
في مشهد آخر تنظر الممرضة ببرودة ولؤم إلى جاك نيكلسون العائد من جلسة علاج الصدمة الكهربائية، هذا المشهد صوّر في الحقيقة تعابير وجهها المنزعجة كردّة فعل على إحدى توجيهات المخرج.
اللقطات التي ضمّت جاك نيكلسون ومدير المصحّة العقلية هي مشاهد بمعظمها ارتجالية، كانت ردّة فعل مدير المستشفى الممثل Dean R. Brooksحقيقية بالكامل.
تمّ اختيار" جاك نيكلسون" وهو النجم الوحيد في الفلم محاطاً بمجموعة من الممثلين المغمورين، لجعل شخصية McMurphy"" قيادية. وقد عُرض هذا الدور قبل نيل جاك نكلسون له على Marlon Brando و Steve McQueen.
أما دور الممرضة Nurse Ratched فقد عُرِض على كل من Faye Dunawayو Audrey Hepburn وقُبل بالرفض قبل أن تناله Louise Fletcher وهو دورها السينمائي الثاني.
مِن ما قيل عن تفاصيلِ تصوير الفلم أنّ الممثلين تابعوا أداء الشخصية، حركاتها، وطريقتها في الكلام حتى حين انتهاء المشهد وتوقف التصوير.
صُوِّر المشهد الأخير من الفلم بلقطة واحدة، فيما أخذ مشهد الحفلة في الفلم أربعة أيام تصوير.
عنوان الفلم مأخوذ من أغنية للأطفال " الطيران فوق عش الوقواق".
Jack Nitzsche هو المؤلف لموسيقى بداية ونهاية الفلم.
أُطلِق الفلم في صالات السينما بتاريخ 21 تشرين الثاني عام 1975، ونال شهرة عريضة حتّى أنّه بقي حتى عام 1987 يُعرض في صالات السينما السويدية محطّماً بذلك رقماً قياسياً لم يُكسر حتى اليوم.
يُعتبر "الطيران فوق عش الوقواق" ثاني فلم في تاريخ الأوسكار ينال الجوائز الخمسة الرئيسية (أفضل ممثل، ممثلة،نص،مخرج،صورة) وذلك بعد أربعة عقود من نيل فلم It Happened One Night (1934)، لهذه الجوائز، الفلم الثالث الذي أضيف لهذه القائمة حتى اللحظة هو : The silence of the lambs.
التحفة الفنّية حُفِظت في سجل الأفلام الوطنية في مكتبة الكونغرس.
لكن قبل ذلك..حُفِظت في مخيلة كل من شاهد الفلم في أي مكان وزمان ..فحلّق رغماً عنه فوق عش الوقواق!
مُلصق الفلم :
لحظات نيل الأوسكار لكل منLouise Fletcher وJack Nicholson
المصادر :
هنا
هنا