السد العالي.. ثالث أكبر خزان مائي في العالم
الهندسة والآليات >>>> منوعات هندسية
على نهر النيل في مصر يتربَّع بناء مهول يحجز خلفه أضخم كتلة مائية عذبة في الدول العربية؛ إنه السد العالي، الذي يولد طاقة كهربائية كانت قادرةً في وقتٍ ما على تأمين نصف ما تستهلكه مصر من الكهرباء تقريبًا.. وفي مقالنا هذا نأخذكم في رحلة للتعرف إلى تفاصيل هذا السد الشهير الذي كان إنشاؤه ثورةً حقيقيةً.. في العام 1959، توصلت دولتا مصر والسودان إلى اتفاق يتضمن تخصيص جزءٍ من الخزان المائي للسودان قدره 18.5 كم3.
السد العالي هو سدٌّ مائي واقع على نهر النيل وتحديدًا على الحدود بين مصر والسودان مشكِّلًا خلفه بحيرة ناصر؛ ثالث أكبر خزان مائي في العالم.
تعتمد مصر دائمًا على مياه نهر النيل الذي يملك رافدين رئيسَين هما النيل الأبيض والنيل الأزرق، ينبع النيل الأبيض من منطقة البحيرات العظمى في وسط إفريقيا، ويجري من شمال تنزانيا إلى بحيرة فيكتوريا، وأوغندا وصولًا إلى جنوب السودان، في حين يبدأ النيل الأزرق في بحيرة تانا في إثيوبيا ويجري إلى السودان من الجهة الجنوبية الشرقيية، ليجتمع النهران بالقرب من العاصمة السودانية الخرطوم.
تاريخيًا، سُجِّلت أول محاولة لبناء سد قرب أسوان في القرن 11 عندما استُدعي العالم و المهندس الحسن بن الهيثم إلى مصر من قبل الخليفة الفاطمي -الحكيم بأمر الله- لتنظيم فيضان نهر النيل، لكن عدم توفر الإمكانيات اللازمة آنذاك أدى إلى عدِّ تلك المحاولات غير ذات جدوى.
ولم تبدأ الجهود لاستغلال مياه نهر النيل فعليًا إلا عند بناء سد أسوان المنخفض عام 1898 تحت إشراف السيد ويليام ويلكوكس (William Willcocks) والعديد من المهندسين البارزين الذين عملوا بالمشروع لصالح شركة (John Aird & Co)، وقد تمت مهمة بناء السد عام 1902 ورُفع مرتين أولهما في الفترة الواقعة بين عامَي 1907 و1912 والثانية بين عامَي 1929 و1933 بهدف تخفيف فيضانات نهر النيل، لكنَّ السد لم يكن كافيًا على الرَّغم من تلك المحاولات نظرًا لكونه منخفضًا وغير كافٍ للسيطرة على الفيضان السنوي لنهر النيل، ومن هنا كانت فكرة إنشاء السد العالي في العام 1952 بتمويل من البنك الدولي، تبعتها مباحثات بخصوص ذلك في العام 1954.
حاولت الولايات المتحدة وبريطانيا في وقتٍ سابقٍ تمويل جزء من المشروع، لكنَّ الولايات المتحدة انسحبت من التمويل، تلاها كلٌّ من بريطانيا والبنك الدولي، وجاء الاتحاد السوفيتي في نهاية المطاف لإنقاذ مصر عن طريق توفير الأموال المطلوبة لهذا المشروع في العام 1958، وبذلك بدأ بناء السد العالي أخيرًا في أسوان عام 1960، وقد صُمِم السد العالي في أسوان من قِبل معهد المشاريع الكهرومائي الروسي بالتعاون مع مهندسين من مختلف أنحاء مصر.
الغرض من المشروع في شمال إفريقيا وفوائده:
يهدف تشييد السد أساسًا إلى تنظيم تدفق نهر النيل، الذي يعد شريان الحياة لكل أنحاء مصر.
الجدير بالذكر أن تقييم التكاليف والفوائد المترتبة على بناء السد يبقى مسألة مثيرةً للجدل، لكن وفقاً لبعض التقديرات فإن الفوائد الاقتصادية للسد العالي قاربت 255 مليون جنيه مصري؛ أي ما يعادل 587 مليون دولار بناءً على استخدام أسعار التحويل بين الجنيه المصري والدولار في العام 1970 وبلغت حينها 2.30 دولار لكل جنيه مصري.
ووفقًا لتلك التقديرات، فقد قُسمت تلك المبالغ على النحو الآتي: 140 ميلون جنيه من الإنتاج الزراعي، و100 مليون جنيه لتوليد الطاقة الكهربائية، و10 ملايين جنيه للوقاية من الفيضانات، و5 ملايين جنيه لتحسين الملاحة في النهر.
وقد كانت التكلفة الإجمالية غير محددة عند بدء العمل بالبناء، ويذكر من بعض التكاليف الإضافية تكلفة مد خطوط الطاقة الكهربائية التي بلغت قرابة 450 مليون جنيه، إضافةً إلى عمليات نقل المواقع الأثرية، وعلى الرَّغم من الأثار السلبية الاجتماعية والبيئية للسد، لكنَّ تغطية التكاليف قد نجحت خلال عامَين فقط.
من جهةٍ أخرى، شهد محيط بحيرة ناصر نشوء صناعة جديدة هي الصيد، ولم تمنع المسافة الكبيرة التي تفصل تلك المناطق عن أسواق البيع متابعةَ الصيد، حتى بلغ الإنتاج في منتصف التسعينيات قرابة 35.000 طن، من ثم افتُتِحت مصانع لصيد الأسماك وتعبئتها وتغليفها بالقرب من البحيرة.
وعلى الرَّغم من بعض المشكلات البيئية التي تسبب بها بناء السد في أسوان، لكن بعض الآراء ترى أن فوائد السد العالي هناك تفوق آثاره السلبية بكثير.
من جهةٍ أخرى، يعترض بعض المهتمين على وجود السد ويطالبون بهدمه مدَّعين أن هدمه لن يكلف سوى القليل من الأموال لكنَّه سيمنع العديد من الأضرار التي تسبب بها السد، إذ من شأن ذلك أن يسمح باستصلاح قرابة 500.000 هكتار من الأراضي الزراعية بسبب مادة الطمي التي يجرفها النهر.
تفاصيل مشروع السد العالي:
يصل ارتفاع السد إلى 111م تقريبًا وطوله إلى 3.830م وعرض قاعدته 980م، ويمكن لقناة التصريف تصريفُ قرابة 11000م3 في الثانية.
ويتألف السد من الصخور والإسمنت والمعادن (الحديد) ويشكل بحيرةً ضخمة بطول 550 كم وعرض 35 كم، وتبلغ مساحة سطح هذا الخزان المائي 5.250 كم2 وعمقه 185م ولديه قدرة على تخزين 132كم3 من مياه نهر النيل.
ويتألف السد العالي من 180 بوابة تصريف للمياه تتحكم بتدفق المياه وتنظمه وتحقق السيطرة التامة على الفيضانات، ويحوي 12 توربين لتوليد الكهرباء أي ما يعادل 2100 ميغا واط للاستخدام المنزلي والصناعي، وتطلب بناؤه قرابة 44 مليون م3 من مواد البناء و34.000 يدٍ عاملة للبناء.
بدأ البناء في 9 كانون الثاني 1960 وانتهت المرحلة الأولى ثم بدأ بناء الخزان المائي عام 1964، وانتهت أعمال بناء السد تمامًا في21 تموز 1970، وافتُتح رسميًا عام 1971، وما زالت هناك خططٌ قائمةٌ لتوسيع السد.
الخلافات المتعلقة بالسد العالي في أسوان ومساوئه:
كان السد العالي في أسوان مثيرًا للجدل منذ قرار إنشائه، وتعمقت الخلافات المالية قبل تنفيذه مما أدى أخيرًا إلى انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والبنك الدولي من تمويل جزء من المشروع، وبما أنَّ ذلك كان في فترة الحرب الباردة، فقد تعهد الاتحاد السوفيتي بتمويل جزء منه. وقد شهد المشروع الكثير من المعارضات بسبب القضايا البيئية التي أثارتها فكرة بنائه، فقد كانت فيضانات نهر النيل تؤمن مادة الطمي المغذية للتربة، وقد أدى بناء السد إلى حرمان وادي النيل منها، كذلك غمرت مياه البحيرة التي تقع خلف السد؛ أي بحيرة ناصر، العديد من المواقع التاريخية أهمها معبد أبو سمبل الذي جرى نقله بإشراف اليونسكو إلى شواطئ بحيرة ناصر.
وقد اضطرت الحكومات إلى نقل قرابة 90.000 ألف شخص من النوبيين الذين يعيشون قرب الحدود، إذ نُقل النوبيون السودانيون مسافة 600 كم من مكانهم الأصلي، والنوبيين المصريين مسافة 45 كم فيما يُعرف بالهجرة النوبية.
وتشير بعض التقديرات إلى أن كمية التبخر في مياه بحيرة ناصر الواقعة خلف السد العالي كبيرةً جدًا نتيجة كبر المسطح المائي المعرَّض إلى أشعة الشمس في منطقة ذات مناخٍ حارٍ جدًا. ويقدر حجم الخسارة بـ 12-14% من المدخول السنوي للمياه (حسب إحدى التقديرات التي تشير إلى تبخر قدرع 10 كم3). كذلك انتشرت بعض النباتات وتأقلمت مع الظروف الجديدة فأسهمت في عملية النتح مما أدى إلى مزيدٍ من الخسارة في المياه، وقد أشارت الدراسات إلى أن عدد الأفراد المتضررين من مرض الطفيلي "البلهارسيا" قد زاد منذ افتتاح سد أسوان.
يُذكر أن الصيد قبالة السواحل في البحر المتوسط قد مُنع لأن الأسماك حوصرت خلف السد فانخفضت كمية السردين على سبيل المثال بقرابة 18000 طن في عام 1962، ووصل إلى 460 طن فقط في عام 1968، لكنَّه تعافى تدريجيًا ووصل إلى قرابة 8590 طن في عام 1992، وقد صدرت في منتصف التسعينيات مقالة علمية تشير إلى عدم توافق الانخفاض الابتدائي للإنتاج وعودة مستوياته إلى الارتفاع لاحقًا، وما زال ذلك الأمر مصدر حيرةٍ للعلماء حتى اليوم.
بحيرة ناصر:
كان نهر النيل يجرف معه الرواسب التي أصبحت تتجمع عند السد بعد بنائه، مما أدى إلى خفض القدرة التخزينية للبحيرة؛ أي إن قرابة 31 كم3 من إجمالي السعة التخزينية للبحيرة التي تبلغ 162 كم3 تعدُّ ميتة ولا فائدة منها نتيجة تجمع الرواسب على عمق 147 م تحت مستوى سطح البحيرة، ويقدر ما يحمله نهر النيل من الرواسب سنوياً بقرابة 134 مليون طن، وإذا استمر تراكم الرواسب بالمعدل نفسه فإن منطقة التخزين الحية (الفعالة) في بحيرة ناصر ستنخفض وتتحول في مدة تبلغ 300-500 عام إلى مخزون ميت مكون من الرواسب فقط، علمًا أن حفر قنوات الصرف لإزالة الرواسب بانتظام كان أمرًا لا بدَّ منه قبل بناء السد العالي.
المصادر:
هنا
هنا
هنا
مصادر الصور:
هنا
هنا
هنا