يوسف العش: القلم الذي مثل تراث الحضارة الإسلامية في الجامعات الفرنسية
التاريخ وعلم الآثار >>>> شخصيات من سورية
هكذا سيكون مقالنا عنه، بدون صورته، بدون رسمٍ بقلم الرّصاص يصف لنا تعابير وجهه، هكذا فقط، بمقالٍ من كلمات لربّما نعلي شأن الدّكتور يوسف العشّ مرّةً واحدةً أمام المجتمع النّاطق بالعربيّة، لست هنا أتحدّث عن مؤرخ أحداثٍ يكتب السّير والتّراجم، فهذا النّوع من المؤرّخين ما هو إلا قاصصٌ لحكاياتٍ مستندةٍ إلى مصادر متعدّدةٍ، أمّا مؤرّخ الوثائق فهو ذلك الأكاديميّ المعنيّ بالمنهج ووصف علوم التّاريخ وتحليلها ونقدها وتحقيق المخطوطات وتقييمها، وهنا يكمن الفرق بين من يدوّن الأحداث، وبين من يحقّقها ويخرجها من غياهب المخطوطات وكتب التّراث إلى دراسات الجامعات، لعلّ هذا السّبب الرّئيسيّ في جهل كلّ من لا يعرفه، فمعظم المثقّفين والقرّاء المحبّين للتّاريخ يخلطون بين علم التّاريخ وبين السّيرة، فكثيرون يحبّون مناقشة السّير والأحداث معتبرين أنفسهم يقرؤون التّاريخ، ولكنّ التّاريخ لا يقتصر على علوم السّير والتّراجم وأحوالها من أحداثٍ ووقائعَ، بل يمتدّ إلى جملةٍ من المباحث في شؤون الوثائق وتحقيقها وتقييمها، ولنا في هذه المباحث مدارس كثيرةٌ خاصّةٌ بكلّ أمّةٍ جعلت منها النّظرية والقاعدة الأساسيّة في تدوين التّاريخ الخاصّ بها.
نبدأ قصّته من طرابلس في شماليّ لبنان، حيث تخفي مرافئ الفيحاء طفلاً صغيراً يولد في اللّحظة وينتظره مستقبلٌ علميٌّ لن يقلَّ أهميّةً عن مستقبل أكبر مؤرّخي الحضارة الإسلاميّة، إنّها سنة 1911، في الوقت ذاك، كانت الحرب العالميّة قد دقّت أبواب الزّمان، وبوارج المتحالفين تقصف موانئ طرابلس التي كانت لا تزال تحت سيطرة الدّولة العثمانيّة المنهارة، وتحت وقع النّار والحرب هاجرت عائلته إلى حمص ومن ثمّ حلب حيث أسسّ والده تجارةً جديدةً في حلب.
أمضى يوسف دراسته في مدارس حلب، وكان والده متوسّط الحال يعمل في التّجارة، وبعد أن أنهى البكالوريا في عام 1929 سافر إلى دمشق ودرس في المدرسة السلطانيّة وحصل هناك على الثّانوية الثّانية سنة 1931. في هذه الأثناء أوفدته فرنسا –التي كانت تحكم سوريا بالانتداب – إلى جامعة السّوربون بسبب تفوقه في البكالوريا الثّانية والتي حازها بدرجة تفوّق، ليدرس هناك الآداب ويحصل على درجة اللّيسانس في الآداب سنة 1934 وحصل أيضاً على شهادةٍ في تنظيم دُور الكتب (المكتبات) في مدرسة الشّروط بباريس.
سارت به الأقدار عائداً إلى دمشق سنة 1935 حيث عُيّن مديراً للمكتبة الظّاهريّة فنجح نجاحاً مبهراً في تنظيمها وترتيبها، واستمرّ في العمل فيها إلى أن حلّت سنة 1946 ، حينها شدّ الرّحال إلى قاهرة المعز حيث عمل أمين سرٍّ في جامعة الدّول العربيّة، يبدو أنّه كان له هدفاً واضحاً بمتابعة تعليمه. خلال عمله في المكتبة الظّاهريّة، تعرّف على جملةٍ من الأدباء السّوريين وكبار المفكّرين، فكان يقصد الاجتماعات التي كانت تنظَّم في منزل المفكّر السّوريّ "محمد كرد علي" رئيس المجمّع العلميّ في تلك الفترة، فكوّن جملةً من الصّداقات مع رموز المرحلة من المفكّرين والسّياسيّين، ومن جملة الصّداقات التي اكتسبها هي صداقته بالقانونيّ الكبير عبد الرزّاق السّنهوري المشهور جداً بموسوعاته القانونيّة، أضف عليهم طه حسين وأحمد أمين وساطع الحصري، أيّ نصيبٍ هذا يحيط بيوسف وهو في الخامسة و الثّلاثين من عمره، لقد تبدّى جليّاً – وهذا ما اتّضح لاحقاً على لسان إبنه صفوان – أنّه حمل رغبةً جليّةً في بناء سلسلةٍ من العلاقات تقوده نحو الشّهرة قبل الشّروع في مخطّطه العظيم في رسم سيرٍ جديدٍ للعلوم التّاريخيّة باللّغة العربيّة، لقد سعى نحو الشّهرة من أجل أهدافٍ علميّةٍ، غير طامعٍ بمنصبّ أو مالٍ.
وبعد عدّة تنقّلاتٍ إلى أوروبا حصل على درجة الدّكتوراه الأولى والتي جائت بعنوان "تاريخ دُور الكتب العربيّة في العراق والشّام ومصر عبر العصر الوسيط وأثرها في نشأة المدارس" و من أجل أن يثبت كفاءته كان لابدّ أن يقرأ كامل الإنتاج الفكريّ المدوّن في هذا المجال من مخطوطٍ وكتبٍ ودراساتٍ، ومن أجل هذا الغرض تنقّل بين مكتبات تركيّا وفيينا وباريس ولبنان وسوريّة باحثاً عن كلّ ما يقع بين يديه من كتبٍ تتحدّث عن هذا المجال، ليصل مجمل ما اطّلع عليه من مصادر للمعلومات ما بلغ عدده 3000 مخطوطٍ وأكثر من 800 مجلّدٍ مطبوعٍ، وفي خضمّ الصّعوبات التي عاناها في هذا البحث هو موضوع أصل الكتابة والكتب، فاضطرّ إلى نشر كتابٍ بعنوان تقييد العلم، وهو عبارة عن مخطوطٍ من تأليف الخطيب البغداديّ – الذي سيتحوّل لاحقاً لواحدٍ من أهمّ الشّخصيّات المؤثّرة على منهج الدّكتور يوسف العشّ - قام الدّكتور يوسف العشّ بتقديم افتتاحيّةٍ منهجيّةٍ سيأسّس من خلالها لسنواتٍ قادمةٍ من المنهجيّة العلميّة الرّاقية في نشر دراسات علوم التّاريخ في الحضارة الإسلاميّة حيث تحدّث عن نشأة الكتاب والكتابة في مقدّمةٍ واسعةٍ تعتبر الأفضل منهجيّاً ولا يضاهيها إلا كتب ومقدّمات الدّكتور أكرم ضياء العمري، ليلاقي هذا الكتاب نجاحاً باهراً بعد أن قدّمه كرسالةٍ من أجل الدّكتوراه الثّانية أو دكتوراه الدّولة، ليحصل على تقديرٍ كبيرٍ من المجتمع العلميّ في كلّ مكان.
عاد إلى سوريّة سنة 1950 ليعمل في الجامعة السّورية حيث عيّن أميناً لها في الفترة بين 1950 – 1955 وعيّن بعدها أستاذاً في كليّة الشّريعة وعميداً لها سنة 1964 وتمّت إعارته إلى ليبيا حيث الجامعة اللّيبيّة في بنغازي. ومنذ أن عاد إلى دمشق منهياً رحلة الدّراسة ، كان يشغل باله أسئلةٌ كثيرةٌ عن نشوء الحضارات والأمم، والدّورات التّاريخيّة للشّعوب، حيث حاضر في العديد من جامعات أوروبا حول هذا الموضوع، ولكن شاءت الأقدار أن توافيه المنيّة وهو في السّادسة و الخمسين من عمره سنة 1967 حيث أصيب بذبحةٍ صدريّةٍ كانت كافيةً لإنهاء حياة واحدٍ من أهمّ مؤرخيّ الحضارة الإسلاميّة في القرن الماضي.
ونأتي الآن في سرد مؤلفاته العلميّة:
- تصنيف العلوم والمعارف: 1937
وهو أوّل كتابٍ عربيٍّ صنّفه الدّكتور يوسف العشّ أثناء إقامته في دمشق وهو بدوره أوّل كتابٍ عربيٍّ صُنّفت فيه العلوم بطريقةٍ منطقيةٍ تستقي من تصنيف أوغست كونت للعلوم.
- الخطيب البغدادي مؤرّخ بغداد ومحدّثها: 1945
أيضاً من الكتب الرّائعة التي تعدّ طبعة دمشق من إعداده حيث درس شخصيّة الخطيب البغدادي ودرس العصر الذي كان فيه، لقد كان لشخصيّة الخطيب البغدادي ومنهجه ومدرسته التّاريخيّة عظيم الأثر في صقل وتكوين شخصيّة الدّكتور يوسف العشّ، ليبدو لنا جميعاً أنّ الدّكتور يوسف العشّ سيسعى إلى تطوير الكثير من التّقنيّات في أسلوبه الجديد مستفيداً من البغدادي نفسه.
- قصّة عبقريّ: الخليل بن أحمد الفراهيدي، 1943
طبع في القاهرة، وهو كتابٌ منهجيٌّ يتناول فيه سيرة الخليل بن أحمد الفراهيدي ويدرس شخصيّته التّاريخيّة وتحليل صفاته وقدراته في تحسين وتطوير الآداب العربيّة واعتنائه الظّاهر باللّغة العربيّة.
- الدّولة الأمويّة والأحداث التي سبقتها ومهّدت لها: 1965
واحدٌ من أهمّ المراجع عن الدّولة الأمويّة في بلاد الشّام، طُبع في دمشق، يقدّم من خلالها الدّكتور يوسف العشّ سرداً أكاديميّاً مفصّلاً عن سيرة هذه الدّولة في كتب التّراث وقيمتها الإنسانيّة الضّخمة في التّراث الإنسانيّ، حيث قدّم جملةً من السّيناريوهات التّحقيقيّة التي كانت تتحدّث عن التّيارات المختلفة إبّان قيام تلك الدّولة.
- الحضارة الإسلاميّة:
وهو بحثٌ فرنسيٌّ مقدّمٌ لليونيسكو بعنوان:
La Civilisation musulumane expliquée à la lumière du monotheisme
- كتاب تقييد العلم للخطيب البغداديّ 1949
وهو عبارةٌ عن تحقيق المخطوط وإضافة الشّروحات المنهجيّة، حيث تناول فيه تاريخ التّدوين الحديث، موضّحاً الاختلافات بين الأجيال وأثرها على العمليّة التّدوينيّة، طبع في دمشق.
الدّولة العربيّة وسقوطها ليوليوس فلهاوزن: 1956 طبع في دمشق
- فهرس مخطوطات التّاريخ وملحقاته في دار الكتب الظّاهريّة: 1947 طبع في دمشق.
تاريخ الخلافة العباسيّة: طبعته دار الفكر سنة 1982
- دُور الكتب العربيّة العامّة وشبه العامّة لبلاد الشّام والعراق ومصر في العصر الوسيط: حيث لم يتسنّى للدّكتور يوسف العشّ حضور تخريج أوّل طبعةٍ من أرقى نجاحاته وهو هذا الكتاب المطبوع بالفرنسيّة سنة 1967 إذا وافته المنيّة قبيل طباعة الكتاب، ليقوم بترجمته سنة 1991 نزار أباظة ومحمد صبّاغ للعربيّة وتقوم دار الفكر بنشر النّسخة العربيّة لهذا الكتاب والمرجع الأهمّ في تاريخ الكتب والمكتبات في الحضارة الإسلاميّة.
لقد ترك الدّكتور يوسف العشّ خلفه إنتاجاً فكريّاً لا يستهان به، وأحياناً أقف عاجزاً عن شكره لما استفادت منه الأجيال التي درست علوم التّاريخ في العالم العربيّ، لم يحتًج لتدوين الكثير من المجلّدات لقد اختصر المنهجيّة كاملةً في بضعة كتبٍ. إنّ تلك المنهجيّة القائمة على تبسيط التّاريخ للقارئ العام، وتكليف الباحث التّاريخي بالإطّلاع على كامل الإنتاج الفكريّ المدوّن في أدب الموضوع نفسه جعل من الدّكتور يوسف العشّ ومؤلّفاته موسوعةً لا يستطيع باحثٌ تاريخيٌّ أن يكون في غنى عن الإطّلاع عنها.
وللأسف، لم يأتِ بعده من يكمل مسيرته الرّائعة ويكمل بناء المنهج الذي طوّره عن الخطيب البغداديّ، حيث بقيت كتبه حبيسة الرّفوف في المكتبات الوطنيّة في العالم العربيّ، وحتى اليوم فإنّ الباحثين في العلوم التّاريخيّة يقفون عاجزين عن تكرار هكذا أعمالٍ استثنائيّةٍ لمؤلّف قال في حقّه الشّاعر الكبير أحمد أمين:
"عرفت الأستاذ يوسف العشّ شابّاً ممتلئاً نشاطاً، مخلصاً للعلم، جادّاً في البحث وراء الحقّ، لم تمنعه ثقافته الغربيّة أن يصرّ أطول زمنه ناشباً في الكتب الشرقيّة، مسلّطاً ضوء المنهج الذي اكتسبه في الغرب على التّراث العظيم الذي خلّفه لنا في الشّرق"
في الحقيقة وفي هذا المقال لا يسعنا إلا أن نشكر ابنه صفوان العشّ على تدوين كلّ هذه المعلومات فلولا هذا التّقديم في جلّ كتب الدّكتور يوسف العشّ، لاندثرت سيرة المؤرّخ الأفضل للحضارة الإسلاميّة ولانمحت هذه التّفاصيل الرّاقية من حياته التي أفناها في خدمة الإنتاج الفكريّ المكتوب بالعربيّة، مطوّراً في علوم التّاريخ باللّغة العربيّة.
يذكر أنّ الدّكتور يوسف العشّ تزوّج سنة 1941 من سلام كبارة إحدى قريبات والدته من طرابلس ورزق منها بولدين وبنتين لم نعرف منهم إلا صفوان الذي دوّن سيرة الدّكتور الرّاحل، وأقتبس هنا من كلمات الابن يصف أبيه:
"وتبقى الشّخصيّة الهادئة الطّموحة المثاليّة المبدعة، ويظلّ الوجه الذي يضيء بنور التّفكير والمعرفة مثلاً يحتذى ونبراساً مع الأيّام، عسى أن يأتي يومٌ يفسّر فيه التّاريخ بالعلوم، فيكون حلمه قد تحقّق أو بعضه. ظلّ والدي في نفسي ذكرى عظيمةً لا أنساها، ويبقى في نفوس أهل العلم والثّقافة أحد جنودها العظام بما ترك من آثارٍ حسانٍ تحمل له الذّكر العطر. "
ومنّا نحن في مبادرة الباحثون السّوريّون نهدي روحه الطّيّبة أسمى التّحيّات لإنجازاته العلميّة في قطّاع العلوم التّاريخيّة وإسهامه الكبير في رفع اسم سوريا عالياً من خلال أعماله العلميّة والفكريّة.
الدّكتور يوسف العشّ، أستاذي القدير، وملهمي الأوّل، الرّحمة لروحك الطّيّبة، سيغدو من الصّعب عليّ حمل هذه الرّاية الثّقيلة في مدرسة المناهج التّاريخيّة، ولك منّا وعدٌ بأن نكمل مشروعك الذي بدأته في علم التّاريخ، وسنسمّيه:
مدرسة الدّكتور يوسف العشّ العلميّة في دراسة علوم التّاريخ
المراجع:
العشّ، يوسف (1991) دُور الكتب العربيّة العامّة وشبه العامّة في العصر الوسيط في بلاد الشّام والعراق ومصر. ترجمة: أباظة، نزار؛ الصباغ، أحمد. دمشق: دار الفكر.
العشّ، يوسف (1985) الدّولة الأمويّة والأحداث التي سبقتها ومهّدت لها ابتداءً من فتنة عثمان. دمشق: دار الفكر.