Yang-Mills
الرياضيات >>>> مسائل الملينيوم السبعة
يعتمد نجاح هذه النظرية في وصف التفاعلات النووية الشديدة بين الجسيمات الأولية على خاصية موجودة في ميكانيك الكم تسمى "فجوة الكتلة" وتنص على أن الجسيمات الكمومية لها الكتل موجبة بدلاً من أن تكون عديمة الكتلة.وقد تم اكتشاف هذه الخاصية من قبل علماء الفيزياء بالتجربة وأكدته المحاكيات الحاسوبية، لكن هذه الخاصية لا تزال غير مفهومة من الناحية النظرية. وبالتالي يتطلب النجاح التجريبي لنظرية يانغ-ميلز إستحداث أفكار جديدة أساسية في كل من مجالي الفيزياء والرياضيات لحل مسألة فجوة الكتلة.
لفهم هذه المسألة بشكل أعمق لنشرح أولا بعض خواص عن ميكانيك الكم، وأحد أهم خواصه التي تسمى "مثنوية موجة-جسيم" فالجسيمات كالإلكترونات مثلاً نجدها في بعض التجارب تُظهر خواصاً موجية وفي البعض الآخر تُظهر خواصاً كالجسيمات. وهذا السلوك الغريب ليس مهماً من الناحية النظرية فقط، بل من الناحية العملية فالكثير من التقنيات الحديثة تعتمد على هذه الخاصة لأنها أساس لسلوك أشباه النواقل في جميع الأجهزة الإلكترونية ، وسلوك المواد النانوية، وايضاً في علوم الحوسبة الكمومية.
في الوقت الحاضر يعتبر ميكانيك الكم نظرية أساسية لا تحكم فقط عالم الجسيمات الصغير ولكنها ناجحة –على رغم تعقيد الحسابات في هذه الحالة- في وصف عالمنا اليومي أيضاً. فالنظريات الكلاسيكية التي تصف فيزياء حياتنا اليومية (كالنظرية الكهرطيسية الكلاسيكية مثلا) هي تقريب لمقابلها الكمومي (الالكتروديناميك الكمومي في هذه الحالة) ولكن هذه الأخيرة تعود ضمن الشروط الفيزيائية لعالمنا اليومي لتعطي نفس القوانين التي نعرفها قديماً. ولكننا هذه المرة سنكون استخرجناها من نظرية أشمل وأعمّ. تدعى عملية استبدال المفاهيم الكلاسيكية في الفيزياء بمقابلاتها الكمومية بعملية التكميم.
يكون الوصف الكمومي ناجحاً عادة عندما نتعامل مع عددٍ محدود من الجسيمات، أو كما يدعوها الفيزيائيون في الحالة العامة: عدد محدود من درجات الحرية (درجة الحرية تعني صفة فيزيائية تستخدم في وصف حالة نظام فيزيائي فمثلاً من الخواص الفيزيائية للغازات التي تعتمد على درجات حرية جسيماته، خاصية الحرارة النوعية ومعامل الانضغاط)، ورغم أن السلوك الكمومي للجسيمات مخالف لبديهتنا عادةً، إلا أن قواعد ميكانيك الكم تنجح في وصف الحالة بدقة. ولكن عندما ننتقل لدراسة الحقول الكهربائية والمغناطيسية يصبح الوضع أكثر تعقيداً وأحد أهم أسباب هذا التعقيد أن عدد درجات الحرية يصبح لانهائياً. بعبارة أخرى لا يمكن تحديد عدد الجسيمات التي تتشكل وتفنى ضمن إطار العملية الفيزيائية المدروسة. مع دفع الفيزيائيين بميكانيك الكم نحو الأمام بتطويرهم لما يعرف بنظرية الحقل الكمومي تمكن الفيزيائيون من تحقيق العديد من النجاحات باستخدام هذه النظرية فالحسابات المبنية عليها تعطي نتائج دقيقة ومتوافقة مع التجارب حتى الان. ولكن رغم نجاحها فالأساس الرياضية لهذه النظرية لازالت غير مفهومة بشكل كامل.
ولكن ما هي المشكلة بشكل رئيسي؟؟؟
ينتمي العديد من نظريات الحقول في الفيزياء إلى فئة تدعى نظريات المقياس - فئة من نظريات الحقل الكمومي- حيث يتم دراسة الجسيمات والحقول الموافقة لها من وجهة نظر رياضية والبحث فيما إذا كانت تحقق تناظرات معينة في الرياضيات. المقصود بتناظرات هنا هو عدم تغير وصف الجملة أو عدم تغير معادلاتها حتى لو غيرنا شيئا ما. فمثلا إذا لم تتغير المعادلات حتى لو عكسنا شحنات جميع الجسيمات قلنا أن الجملة تحقق تناظر الشحنة، ولو لم تتغير المعادلات لو عكسنا بين اليمين واليسار مثلا لقلنا أن الجملة تحقق تناظر الزوجية أو Parity أو كما يوصف للبساطة "تناظر المرآة" حيث تحقق جميع قوى الطبيعة الأساسية هذا التناظر عدا القوة النووية الضعيفة.
إذا كانت هذه التناظرات تبديلية فيما بينها عندها نقول أننا نتعامل مع نظريات مقياس تبديلية. وكمثال عليها الالكتروديناميك الكمومي الذي تحدثنا عنه منذ قليل. حيث تحقق هذه النظرية كما ذكرنا نجاحا في تفسير وحساب النتائج التجريبية.
المثال الأول عن نظرية مقياس غير تبديلية ظهرت من قبل نظرية التفاعل الكهرضعيف، و التي تتطلب آلية تسمح بتفسير وجود كتلة للجسيمات التي نرصدها في الطبيعة. فبدون هذه الالية ستتبنأ النظرية أن الجسيمات عديمة الكتلة وأنها بالتالي يمكن ان تتحرك بسرعة الضوء. تقدم آلية هيغز-براوت-إنغيلرت تفسيراً لوجود كتلة للبعض الجسيمات وينتج عن ذلك افتراض وجود ما يسمى "بوزون هيغز" الذي اعلن عن اكتشافه في تموز 2012 في CERN ( لمزيد من التفاصيل: هنا ) .
محور الإهتمام في مسألة "نظرية يانغ ميلز وفجوة الكتلة" هو نظرية يانغ-ميلز وهي نظرية مقياس غير تبديلية تصف الكواركات (هنا ) والقوى النووية الشديدة المسؤولة عن ترابط نواة الذرة وعن تفسير الطاقة الهائلة التي تنتجها الشمس. حيث نصادف هنا تناقضاً مابين المفاهيم الكلاسيكية والكمومية.
حيث تتنبأ نظرية الكلاسيكية بأن الجسيمات يجب أن تكون عديمة الكتلة كما ذكرنا (كالفوتونات حاملة القوة الكهرطيسية) وبالتالي أن يكون مجال تأثيرها كبيراً ولمسافات شاسعة (تماما كالقوة الكهرطيسية). ولكن النظرية الكمومية يجب أن تتطابق مع الواقع الذي نرصده في كون القوى النووية الشديدة ذات مجال تأثير قصير جداً أي على مسافات من مرتبة أبعاد النواة وأن يكون لهذه الجسيمات كتلة (المقصود هنا هو الجسيمات التي تتبادل التأثير عبر القوة النووية الشديدة). وتوقع علماء الفيزياء مجموعة خصائص رياضية مختلفة مثل "فجوة الكتلة " و غيرها لتفسير عدم وجود جسيمات عديمة الكتلة عند مراقبة التفاعلات النووية الشديدة. وبما أن هذه الخصائص غير موجودة في النظرية الكلاسيكية وتظهر فقط في نظيرتها الكمومية فيجب علينا البحث عن مقاربة مبنية بشكل دقيق أكثر رياضياً لنظرية يانغ-ميلز الكمومية. ولا نملك حالياً الرياضيات اللازمة لفعل ذلك مع أن العديد من التقريبات وتبسيط الحسابات يمكن تطبيقها للحصول على نتائج مطابقة للواقع مما يدل على أن النظرية الكمومية بشكلها الحالي تصف الواقع فعلا.
فالهدف من حل هذه المسألة الرياضية هو إيجاد تفسير وجود "فجوة الكتلة" أي تفسير عدم تواجد جسيمات عديمة الكتلة في نظرية يانغ-ميلز الكمومية. سيتطلب حل المسألة صياغة لنظرية الحقل الكمومي في اربعة أبعاد بحيث تملك هذه الصياغة التعقيد الكافي لتفسير خاصة وجود فجوة الكتلة في نظريات يانغ-ميلز غير التبديلية
ولكن ما أهمية هذه المسألة في الرياضيات؟
من الواضح أن هذه النظرية هي موضع اهتمام علماء الفيزياء، ولكن لماذا هي مهمة لعلماء الرياضيات؟ في العقود الماضية وضع الفيزيائيين أدوات لأجراء حساباتهم ضمن نظرية الحقل الكمومي، بشكل خاص ما يسمى تكامل الطرق أو Path Integrals ، قدمت هذه الادوات توقعات دقيقة جداً في مجال الهندسة والطوبولوجيا، وخصوصاً عندما يكون عدد الأبعاد منخفضاً. ولكن تكامل الطرق ليس معرفاً بشكل متين رياضياً إلا في حالات بسيطة جداً. إذ يبدو الأمر كما لو أننا في عالم ما قبل نيوتن،حيث يمكن القيام ببعض العمليات الحسابية باستخدام بعض الوسائل والحيل ولكن نيوتن لم يطور بعد حساب التفاضل والتكامل.
وبشكل مشابه، فهناك حسابات في الهندسة والطوبولوجيا يمكن القيام بها بشكل غير دقيق باستخدام أساليب طورت من قبل علماء الفيزياء في نظرية الحقل الكمومي ولكنها أعطت الإجابات الصحيحة. مما يشير إلى أن هناك مجموعة واسعة من الطرق الفعالة بانتظار من يكتشفها. التوصل إلى حل لهذه المسألة من مسائل الألفية سيسلط الضوء على ماهية هذه الطرق الجديدة.
المصادر:
هنا
هنا