الاقتراب من حل لغز نشوء الحياة على الأرض
البيولوجيا والتطوّر >>>> منوعات بيولوجية
إنّ أول خطوة سمحت للخلايا الحية بالظهور بدأت من مواد كيميائية بسيطة تدعى بالتخلّق غير الحيوي Abiogenesis. ولفهم كيفيّة حدوث هذه المرحلة اقتُرحت عدّة نماذج علميّة ترافقت مع عدّة تجارب داعمةٍ لها، وذلك بتقليد جوّ الأرض البدائي واستخدام العناصر الكيميائية التي كانت متوفّرة آنذاك، وكان السؤال الأهم الذي يحتاج للإجابة من خلال هذه النماذج هو كيفية ظهور "المادة الوراثية" القادرة على التضاعف ونقل المعلومات، والتي هي أساس الحياة.
تتطلب الإجابة عن هذا اللغز دراسة الكثير من النماذج الكيميائية والرياضية المُقترحة والتي لا بدّ أنّ أحدها سيكون النموذج الأكثر دقّة، ولكن لنتذكّر معاً أنّ التحقيق في إجابة هذا السؤال هي من الصعوبة بمكان، وذلك أنّ الحدث قد انتهى منذ مليارات السنين ولم نره بأعيننا، يضاف لذلك أنه حدثٌ نادرٌ -بل نادرٌ للغاية- لدرجة أنّ احتمال حدوثه وفقاً لبعض الحسابات التقديريّة قد لا يتجاوز احتمال واحدٍ من مليار! (هل يبدو الاحتمال تافهاً وصغيراً للغاية أوشبه مستحيل؟ تذكروا أنّ مجرّتنا وحدها تحتوي حوالي 40 مليار كوكباً شبيهاً بالأرض!)
قُدّمَت عدّة نماذج عن كيفيّة نشوء الحياة حتى الآن، منها ما يعتمد على التخلّق من المركبات العضوية التي كانت موجودةً على الأرض في تلك العصور الغابرة، ومنها ما يعتمد على التخلّق من عناصر غير عضوية كالكريستالات التي تمتلك القدرة على النموّ والتضاعف بعمليات فيزيائية وكيميائية بحتة، ويمكنكم الاطلاع على عدد من النماذج المُقترحة عن أصل الحياة في مقالٍ سابق (هنا).
هناك فرضية تقول أنَّ الحمض النووي الريبي RNA كان الجزيء الوراثي السبّاق للظهور منذ حوالي 4 بليون سنة، ولكن على شكلٍ بدائيٍّ تطور لاحقاً إلى مركبات الـRNA والـDNA الموجودة اليوم. وهناك بحث جديد يوضّح إحدى الطرق التي كانت قد بدأت بها هذه العمليّة.
تُخزّن المعلومات الوراثية في الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين DNA. ويُصنع الـRNA من الــ DNA ليضع هذه المعلومات الوراثية قيد التنفيذ. حيث يوجّه الـRNA عملية إنتاج البروتينات، كما يؤدّي وظائف حياتية أساسية أخرى لايستطيع الـDNA تأديتها.
هذا التنوّع في الوظائف التي يقوم بها الـRNA هو أحد الأسباب التي دعت العلماء للاعتقاد أن هذا المركب وُجد أولاً، بحيث تطور الـDNA لاحقاً كوسيلة أفضل لتخزين المعلومات الوراثية على المدى الطويل. ولكن يعتقد العلماء أن يكون الــ RNA أيضاً أحد منتجات التطور على غرار الـDNA.
قام كيميائيون في معهد جورجيا للتكنولوجيا Georgia Institute of Technology بتوضيح كيفة تمكّن الجزيئات التي قد تكون وجدت على الأرض في بداياتها من تجميع نفسها ذاتياً لتشكل بُنى قد تمثل نقطة البداية للشكل الحالي للـRNA. إن التشكّل الذاتي للوحدات البنائية لجزيئات الـــ RNA تعتبر نقطة مفصلية في أصل الحياة، لكنها وفي نفس الوقت نقطة عانى منها العلماء لعقود مضت.
يقول نيكولاس هاد Nicholas Hud، بروفسور الكيمياء والكيمياء الحيوية في المعهد، "لاحظنا من خلال دراستنا الحالية تفاعلاً من الأهمية بمكان لتشكيل جزيئات بدائية شبيهة بالــ RNA".
ويضيف البروفيسور هاد أنَّ "الـRNA مناسب تماماً للأدوار التي يلعبها في الحياة اليوم، ولكن تشكيل هذا الجزيء كيميائياً هي عملية صعبة للغاية".وهو الأمر الذي يدعو للاعتقاد أن الـRNA تطوّر من ارتباطات كيميائية أبسط. ومع زيادة تعقّد الحياة من الناحية الكيميائية، وظهور الانزيمات، فإن الضغوطات التطورية دفعت الجزيئات البدائية من الـRNA إلى الشكل المحسّن الحاليّ.
يتكون الـRNA من ثلاثة مكونات كيميائية: سكر الريبوز، الأسس الآزوتية والفوسفات، بحيث يشكل ارتباطها معاً وحدات البناء الأساسية، والتي بدورها تشكل الـRNA. يقول البروفيسور هاد أن الصعوبة في فهم أصل الحياة كانت تكمن في اكتشاف آلية تشكّل الرابط بين سكر الريبوز والأسس الآزوتية للمرة الاولى.
وقد بحث فريق الدراسة عن أسس آزوتية ذات صلة كيميائية بالأسس الموجودة في الـRNA الحالي، ولكنها تمتلك قابلية للارتباط بشكل تلقائي مع سكرالريبوز والتجمّع مع أسس آزوتية أخرى عبر التفاعلات نفسها التي تسمح للـDNA والـRNA بتخزين المعلومات. قادت تلك الأبحاث في النهاية إلى جزيء يدعى ثلاثي أمين البيريميدين triaminopyrimidine )TAP).
مزج الباحثون الـTAP مع سكر الريبوز تحت ظروف تماثل بركة جافّة في الجوّ الأوّلي للأرض. وقد تفاعل المركبان معاً بانتاجية عالية، حيث تحوّل ما يقارب الـ80 بالمئة من الـTAP إلى نوكليوزيدات، وهو اسم وحدات الـRNA المتشكّلة من سكر ريبوز وأساس. وقد باءت محاولات سابقة لتشكيل مثل هذه الرابطة بالفشل باستخدام الأسس الموجودة حالياً في الــRNA "بدلاً من TAP" أو أدّت إلى انتاجيّة ضعيفة. يقول هاد: "تكمن أهميّة هذه الدراسة في إظهار الخطوة العمليّة التي أدّت لتشكّل المركبات الشبيهة بالـRNA، كما وضّحت كيفية إيجاد الوحدات البنائية لبعضها وتجمّعها مُشكّلةً المركبات الأولى شبيهة الـRNA".
وأثبت الباحثون هذه الخاصيّة لنوكليوزيدات الـTAP عبر إضافة جزيء إلى مزيج التفاعل يدعى حمض السيانوريك Cyanuric acid المعروف بأنه يتفاعل مع الـTAP.
يقول براين كافيرتي Brian Cafferty أحد خريجي المعهد والمشارك في إعداد هذه الدراسة: "من المذهل أنّ هذه النوكليوزيدات والأسس تتجمّع تلقائياً، حيث أن الحياة اليوم تتطلّب إنزيمات معقّدة لتجميع الوحدات البنائية للـRNA وترتيبهم فراغيّاً قبل عملية التركيب".
يضيف البروفيسور هاد: "أثبتت هذه الدراسة طريقةً وحيدة ممكنة لتجمّع الوحدات البنائية لأحد أسلاف الـRNA على الأرض قديماً. وإن مركب الـTAP هو مرشّح بشدّة ليكون أحد أوائل الأسس التي أدّت لتشكّل جزيئات الـRNA الحالية، ولكن يوجد حتماً أسس أخرى لم يتم اكتشافها بعد."
وستبحث الأعمال المستقبليّة في مختبر البروفيسور "هاد" بالتعاون مع مختبرات أُخرى عن أصول الأساس الفوسفاتي للـRNA، بالتزامن مع البحث عن سبل أخرى قد تكون قادت للوصول للشكل الحالي للـRNA.
ويختم البروفيسور هاد حديثه بالقول: "نحن نبحث عن كيمياء بسيطة ومتينة تشرح أقدم أصل للـRNA أو أحد أسلافه".
وأنتم هل تعتقدون أنّ بداية الحياة على الأرض يمكن أن تكون بهذه البساطة؟ وإلى أين يمكن أن تقودنا مثل هذه الاكتشافات؟
المصدر: هنا