كيف ساهمت النمذجة الحاسوبية في الحد من انتشار الإيبولا -الجزء الأول
المعلوماتية >>>> عام
ومع أن «تيليونيس» لا يبدو للوهلة الأولى الشخصَ المناسبَ لتقديم النصيحة إلى قسم الدفاع، إلا أنّه كان صاحبَ تأثيرٍ خفي وأعطى القوة لهذه المهمة المستعجلة، فقد كانت وراءه الخبرةُ والقدرةُ الحاسوبية الكبيرة للمختبر العلمي لديناميكيات الشبكة والمحاكاة وهو جزء من معهد المعلوماتية الحيوية في فرجينيا، إذ قام هذا المختبر بنمذجة الأوبئة لصالح البنتاغون لمدة تسع سنوات. قام «تيليونيس» بتشغيل برنامجٍ تجريبيّ قام بكتابته لتحديد أفضلِ المواقعِ لبناء مراكزِ معالجةِ الإيبولا ضمن بضع مقاطعات ليبيرية، وقد نالت هذه التجربة إعجابَ DTRA وأرادت من «تيليونيس» بعد ذلك أن يقوم بذلك على أرض الواقع.
قضى «تيليونيس» الـ64 الساعة القادمة يعمل مع DTRA. وقد كان بحثه جزءاً من جهود المختبر لتمثيل تطوّر الوباء القاتل عبر معادلاتٍ رياضية، حيث تكون هذه النماذج في حالتها المثالية قادرةً على التنبؤ بمدى سرعة انتشار المرض، ومن هم الأشخاص الأكثرُ عرضةً للخطر، وأين ستكون النقاط الساخنة، ممّا يساعد السلطاتُ على اتخاذ إجراءاتٍ لإضعاف هذا الوباء. وتتطلّب هذه الحسابات كميّاتٍ هائلة من المعلومات، ليس فقط حول سلوك المرض بل أيضاً عن السكان.
ولإيجاد المواقعِ الستة المثلى لبناء مراكزَ لمعالجة الإيبولا، قام برنامج «تيليونيس» الحاسوبي بالسعي لتقليل المسافة التي سيضطر الشخص المصاب أيّاً كان موقعه أن يقطعها من أجل تلقّي العلاج، بالإضافة إلى تأكيد وجود المركز ضمن طريقٍ موجودٍ وقابلٍ للسلك. ولم تكن هذه العملية سهلةً ضمن البيئةِ الليبيرية الفقيرة بالخرائط المرسومة. ولكن «تيليونيس» من خلال عمله مع زميلٍ متخرّجٍ يدعى «جيمس شليت»، استطاع إيجاد لائحةٍ بهذه الطرق عن طريق الإنترنت. ولكنّه كان أقل تأكّداً من صحّة التوزّع السكاني على المقاطعات الستِّ، ولذلك قام بإجراء تخمينين: واحدٌ من مختبر أوك ريدج الوطني، والآخر من مجموعةٍ من الجامعات الأوروبية والأمريكية. كما كان «تيليونيس» قلقاً من احتواء برنامجه المكتوب على علّة تجاهلها سابقاً، ولذلك طلب من زميله «شليت» كتابة برنامجٍ جديد في غضون ساعاتٍ قليلة وباستعمال برمجياتٍ مختلفة، فحياة الناس كانت على المحكّ ولا مجال لأي خطأ.
بذل الطالبان الكثير من الجهود، وبالكاد حصلا على بضع ساعاتٍ من النوم. ولكنّهما وفي الصباح الباكر من اليوم الثالث قاما بتسليم 19 صفحة تحوي خرائطَ وجداول ورسوماً متحركة، وذلك قبل ساعةٍ ونصف من انتهاء الموعد المحدّد.
أطلق معهد فيرجينيا التقني توقّعاتِه حول وباء إيبولا في ليبيريا وسيراليون في شهر تشرين الأول من عام 2014 وذلك بناءً على معطيات الأشهر السابقة حين كان عدد المصابين بالفيروس يتزايد بشكلٍ أسّي. ولكن توقّعاتِهم وتوقّعاتِ نماذجَ أخرى مشابهة بالغت في تقدير عدد القتلى من هذا المرض. ففي شهر أيّار من عام 2015 وضعت منظمة الصحة العالمية مجموعاً تراكمياً لحالات فيروس الإيبولا بلغ 10،564 في ليبيريا و 12،440 في سيراليون.
قال الخبراء الذين بذلوا الكثير من الجهود خلال تفشي الوباء، أن نمذجة الوباء بالزمن الحقيقي والتي اُستعملت عند تفشي مرض السارس في عام 2003 قد وصلت إلى أقسى اختبار لها مع مرض الإيبولا.
كانت المعطيات المستخدمة في توليد نماذجِ الوباء في البلدان الأكثرِ إصابة بالمرض، وهي غينيا وليبيريا وسيراليون، ناقصةً أو قديمة أو غير موثوقة، وقد تضمنت معلومات عن السكان وحجمِ الأسرة والنشاطاتِ اليوميةِ وأنماط السفر ووجود الطرق وحالتها. وقد كانت معطيات الأمراض المحددة الرئيسية المتغيّرة- وتشمل الحالاتِ الجديدةَ الأسبوعية والزمنَ الفاصل بين ظهور الأعراض وبداية العلاج في المشفى - غير كاملةٍ أيضاً. كان هناك عامل تعقيد آخر لم تتمَّ ملاحظتُه خلال أغلب الأوبئة، وهو ممارسات الدفن التقليدية في أفريقيا الغربية، حيث يقوم أشخاص غيرُ مدرّبين بغسيل ولمس الموتى، ممّا يشكّل عامل نشرٍ كبير للأمراض.
ونتيجةً لذلك فقد واجهت المنمذجات صعوبةً كبيرة في الإجابة على السؤال التالي: "إلى أيّ مدى من السوء سيصل ذلك؟".
وعلى الرغم من الانتقادات التي واجهتها عملية النمذجة من البعض بأنها لم تقم بالكثير، وأنه من الممكن تحقيقُ ما قامت به عبر وسائلَ أخرى، إلّا أن البعض الآخر يرى أن لعملية النمذجة تأثيراً جوهرياً وأنها تطلق صفّارات الإنذار، وأنّ فائدتها تكمن في مساعدتها على تنظيم التفكير، فهي تساعد الخبراءَ أثناء اجتماعاتهم على فهم المخاطر بجوانبها العالية والمنخفضة، والآثارِ المحتملة للتدخّلات التي قد تحصل.
بدأ أحدث تفشٍّ لمرض الإيبولا في غينيا في شهر كانون الأول من عام 2013، وبحلول شهر آذار كان قد انتشر إلى ليبيريا المجاورة وانتقل بعدها إلى المدن المزدحمة التي لم تشهد دمار الإيبولا من قبل. وبحلول الثامن من شهر آب في عام 2014، أعلنت منظمة الصحة العالمية حالةَ الخطر الصحية العامة.
قامت الطالبة المتخرجة من معهد فيرجينيا التقني «كاتلين ريفيرز»، والتي كانت تنهي شهادة الدكتوراة في علم الأوبئة الحسابي، بتوجيه اهتماماتها إلى مرض الإيبولا وذلك في شهر تموز وبتشجيعٍ من مشرفها «براين لويس»، فقد طلب منها لويس بناء نموذجٍ معتمدٍ على معطيات تفشي المرض إفريقيا الوسطى عام 1995 والذي قام بنشره عالمٌ فرنسيٌ في عام 2007.
قام هذا النموذج بتقسيم السكان إلى مجموعةٍ من الفئات: الشديدة الحساسية، والمعرّضة للخطر، والمصابة بالعدوى، والخاضعة لعلاجٍ في المشفى، والميتة غير المدفونة بعد، وغير القادرة على نقل الفيروس بعد الآن بسبب الدفن أو التعافي. وقد اعتبر هذا النموذج أن جميع الناس من الأطفال الرضع وحتى الشيوخ على درجةٍ متساويةٍ من خطر نقل المرض، كما أن انتقال المرض بين الناس يحصل بطريقةٍ متجانسة. وبعبارةٍ أخرى، كان هذا النموذج يمثل تبسيطاً كبيراً لحالةٍ معقّدةٍ من المسببات المرضية كفيروس الإيبولا، ولكنه كان أفضل من لا شيء.
ولتحسين نموذجها، علمت «ريفيرز» أنها بحاجةٍ إلى تعداد الحالات المرضية بشكلٍ يومي أو أسبوعي، فهذه التعدادات جوهريةٌ من أجل بناء منحني الوباء والذي يعدّ التمثيل البصري لنمو تفشي الوباء عبر الزمن. لذلك قامت بالبحث عن طريق الإنترنت ووجدت أن حكومتي ليبيريا وسيراليون قد قامتا بنشر تقاريرَ متقطّعةٍ ولكنها كانت تُنشر مرتين في اليوم أحياناً. كانت هذه المعطيات على شكل ملفات PDF لذلك قامت «ريفيرز» بترجمتها إلى جداولَ منظّمةٍ بشكلٍ مفهومٍ من قبل الآلة. وقد كانت «ريفيرز» على يقينٍ بأن هذه المعطيات ستثير اهتمام غيرها من الباحثين، ولذلك قامت بنشرها على GitHub، وهو موقع للمعطيات مفتوحة المصدر. وبحلول شهر تشرين الأول بلغ عدد الزيارات إلى قاعدة المعطيات الخاصة بـ«ريفيرز» حوالي 2000 زيارة يومية.
وبعد مرور أربعة أسابيع على وجود المعطيات مع «ريفيرز» و«لويس»، كان المنحني الأول للنموذج بين أيديهما، مظهراً نموّاً أسيّاً وهو آخر مايريد الإنسان رؤيته فيما يتعلق بتفشي المرض كما قالت «ريفيرز».
كانت المعطيات التي ترجمتها وعالجتها «ريفيرز» ناقصةً وغير حاوية على بعض المعلومات الحساسة والضرورية للتنبّؤ، كالزمن مابين التعرّض للعدوى ومدّة العدوى. وقد استعملت بعض المنمذجات قيماً تمّ قياسها في حالاتٍ سابقة من تفشّي الإيبولا، ولكن «ريفيرز» شكّكت بهذه المعطيات التاريخية وبقابليّة تطبيقها على السيناريو الحالي الذي تعاملت معه، ولذلك اعتمدت على برنامجها الحاسوبي في تقدير هذه القيم بناءً على ما أظهره منحني الوباء، وقد كانت استراتيجيّتها جيدةً إذ كانت القيم الخاصة بها قريبةً من القيم التي نشرتها منظمة الصحة العالمية. كما أبلى نموذجها بلاءً جيداً في حساب قيمة متغيّر رئيسي يسمى «عدد الاستنساخ الأساسي»، وهو عدد الإصابات الثانوية الناجمة عن كل إصابةٍ أوليّة وذلك في المرحلة الأولى من الوباء، وكان العدد الخاص بـ«ريفيرز» مساوياً لـ2.2 وهو قريبٌ من العدد الخاص بمنظمة الصحة العالمية وهو 1.8.
ولكن مالم يكن قريباً هو التوقعاتُ الحاسمة الخاصة بمعهد فرجينيا التقني، وذلك فيما يخص المدى الذي قد يكبر الوباء ويصل إليه. ففي السادس عشر من شهر تشرين الأول من عام 2014، قام الفريق بنشر بحتٍ علميّ يقول أنه قد يكون هناك 175000 حالة تراكمية في ليبيريا حتى نهاية العام، وقد كان الرقم مذهلاً وخصوصاً أنه في زمن نشر هذا البحث كان العدد لايتجاوز 4665 حالةً في تلك البلد. وقد افترض التنبؤ أن الزمن الذي يبقى فيه الناس المصابون ضمن المجتمع والجزء الذي سيتعالج في المشفى منهم سيبقى ثابتاً ولن يتغير. ولكن عندما قامت المنمذجات بتطبيق تلك الأرقام على سيناريوهات مختلفة تماماً بقيت التنبؤات تقول أن وباء الإيبولا في إفريقيا الغربية سيشتعل في رأس السنة.
في المقال القادم، سنعرف ما إذا كانت هذه التوقعاتُ دقيقةً وقريبة من الواقع، فانتظرونا!
------------
المصدر: هنا
------------