العثور على بعوضة متحجرة تحتوي على دماء كائن حي قديم مجهول!
البيولوجيا والتطوّر >>>> منوعات بيولوجية
خلال العشرين عاماً الماضية ومنذ ظهور فيلم "حديقة الديناصورات The Jurassic Park" الذي يُصور إمكانية استنساخ ديناصور من دماء ديناصورٍ وجدوها في بعوضة محتجزة ومتحجرة في حجر الكهرمان، بدأ جامعوا الأحافير بحثهم عن عينة مماثلة. وخلال هذه الفترة، ادّعى بعض الباحثين عثورهم على بعوض متحجِّر يحتوي في جوفه على دماء قديمة، ولكن كل تلك الاكتشافات اتضح أنها كانت نتيجةً أما للتشخيص الخطأ أو التلوث.
ولكن في الوقت الحاضر أُعلِنَ عن العثور على تلك العينة، وهي عبارة عن بعوضة ممتلئة بالدم ومحفوظة في صخور طينية لما يَقرُب من 46 مليون عام في شمالي غربي مونتانا – الولايات المتحدة. أما الشيء المُذهل حول هذا الاكتشاف هو أنَّ أحد هواة جمع الأحافير (وهو طالب دراسات عليا في علم الأرض ويدعى كيرت كونستينيس Kurt Constenius) قد عثر عليها قبل ما يقرب من ثلاثين عاماً (في ثمانينيات القرن الماضي) في موقع Kishenehn Formation في ولاية مونتانا، قرب الحديقة الوطنية الجليدية Glacier National Park، وتركها في قبو منزله، إلى أن شخّصها مؤخراً عالِم الكيمياء الحيوية المتقاعد دايل غرينوالت Dale Greenwalt الذي يعمل على جمع الأحافير في غرب الولايات المتحدة لصالح المتحف السميثسوني للتاريخ الطبيعي Smithsonian Museum of Natural History. وقد نشر غرينوالت ورقة بحثية حول هذا الاكتشاف بالتعاون مع باحثين من المتحف السميثسوني وعالم الحشرات رالف هارباخ Ralph Harbach في مجلة Proceedings of the National Academy of Sciences، والعينة ليست قديمة بما يكفي لأن تحتوي على دم ديناصور، ولكنها الأولى من نوعها في العثور على بعوضة متحجرة تحتوي على دم بداخلها.
وفي عام 2006 تطوّع غرينوالت بالعمل على فهرسة العينات لصالح قسم علم الأحياء القديمة paleobiology في المتحف السميثسوني، وقد عكف في عام 2008 على العمل على مشروعه الذي يتمثل في جمع الأحافير في شمالي غربي مونتانا في مواسم الصيف. وقد جمع غرينوالت في الأعوام اللاحقة آلاف العينات من 14 رتبة تصنيفية مختلفة من الحشرات من موقع Kishenehn Formation الذي يحتوي على طبقات من صخور طينية تُشَكِّل قعراً لبحيرة تكَوَّنَت في العصر الإيوسيني Eocene epoch قبل ما يقرب من 46 مليون عاماً. ويعقب غرينوالت: "إنه موقع حفريات حشرية رائع، وقد يكون أحد أفضل المواقع في العالم"، حيث يتميزُ هذا الموقع بتشكيلة فريدة من الظروف المواتية لتواجد الحفريات، إذ يحتوي على طبقات رقيقة من الرواسب الحبيبية الناعمة بالإضافة لفقدان الأوكسجين، مما يوفر درجة ممتازة من الحفظ لعينات الأحافير. وقد أسفر عمل غرينوالت في هذا الموقع عن نتائج مهمة، منها وصفٌ لنوعين جديدين من الحشرات (هنا).
قرأ غرينوالت في كتاب حول "تطوّر الحشرات" ذكراً هامشياً لـ "اكتشافات كونستينيس"، ولكن اكتشافاته تلك لم تُوصَفُ بشكل علمي أو تُنشر في مجلات علمية. وقد قابَلَ عائلة كونستينيس وشرح لهم طبيعة عمله، فقرروا التبرع بعينات الأحافير خاصتهم إلى المتحف، وعندما بدأ بفهرسة تلك العينات، وقعَ بصره على هذه العينة المهمة؛ إذ يقول: "لقد لاحظت ذلك حالاً، كان من الواضحِ أنها عينة استثنائية".
استعمل باحثون من مختبر علوم المعادن التابع للمتحف عدة تقنيات لفحص العينة عن كثب، منها تقنية (تحليل الأشعة السينية الطيفي المتبدد الطاقة energy dispersive X-ray spectroscopy)، ويقول غرينوالت: "لقد وجدنا بأن بطن البعوضة ممتلئة بالحديد، وهو ما يدلل على وجود الدم". وعثر الفريق على مركب الهيم Heme (وهو المركب المسؤول عن لون كريات الدم الحمراء، والذي يمنحها القابلية على حمل الأوكسجين عبر الجسم)، بينما أظهرت الفحوصات غياب تلك المركبات في أي ناحية أخرى من المتحجرة. وتعتبر هذه النتائج دليلاً قاطعاً على أن الدم كان محفوظاً طوال تلك الفترة من الزمن داخل الحشرة، ولكن العلماء لم يتوصلوا إلى أي كائنٍ حي يعود ذلك الدم المحفوظ في الحشرة المتحجرة، نظراً لكون الـ DNA لا يمكن أن يُحفظ لمدة 46 مليون عاماً، فقد أظهرت الدراسات أن عمر النصف للـ DNA هو 521 عاماً حتى لو كانت ظروف الحفظ مثالية (المصدر: هنا). وحتى لو افترضنا الحصول على بعض الـ DNA لهذا الكائن، فهنالك عدة مشاكل تقنية تحول دون إمكانية استنساخه بشكلٍ مشابه لما يحدث في فيلم حديقة الديناصورات.
فعملية إنتاج وتجميع جينوماً كاملاً من أجزاء صغيرة من الـ DNA تتطلب معرفة كيف كان الجينوم الكامل لذلك الكائن، وتحويل ذلك إلى كائن حي، إضافة إلى أن إنتاج حيواناً حياً يستلزم وضع الـ DNA في بيضة أنثى تعود لنوع حي قريب جداً من الناحية التطورية إلى الكائن الحي المجهول، والذي لا نعرفه أساساً.
لذلك، وللأسف، لا يمكن أن نرى مخلوقات قديمة أُعيد استنساخها وعادت إلى الحياة بفضل هذا الاكتشاف؛ ومع ذلك يبقى هذا الاكتشاف ذو أهمية علمية، إذ يُمَكِّن العلماء من فهم أفضل لعملية تطور الحشرات المقتاتة على الدم. وقد تم في وقت سابق اكتشاف حالة وثيقة الصلة بالاكتشاف الحالي، حيث عُثِرَ على بقايا طفيلي الملاريا في بطن بعوضة، مما يوفر دليلاً على غير مباشر على أن البعوض يتغذى على الدم منذ 15-20 مليون عام، إلا أن الاكتشاف الحالي هو دليل مباشر وأقدم من السابق على سلوك التغذية على الدم لدى الحشرات. ويُظهِر هذا الاكتشاف أيضاً قدرة بعض الجزيئات البيولوجية كمركب الهيم Heme على البقاء كجزء من السجل الأُحفوري.
المصدر: هنا