برج بابل عندما تُخلَد الأسطورة في لوحة
الفنون البصرية >>>> فن وتراث
ويبدو لنا جلياً عند تأمل اللوحة حجم الإبداع والعناية بالتفاصيل ليكون البرج على هذه الصورة، فالبرج يناطح السحاب عاكساً رغبة الإنسان بالخلود وتحدّي الآلهة، كما نلاحظ عدم اكتمال الأجزاء العلوية من البرج وهو ما يتوافق مع الأسطورة فالبرج لم يُكتَب له أن يتم ّنزولاً غند مشيئة الآلهة على اختلاف مسمياتها.
وعلى الجانب الأيمن من اللوحة نشاهد بحراً وبعض القوارب الصغيرة والتي ترمز إلى المنشأ التاريخي للقصة فالبرج قام بعد الطوفان العظيم وهو يجسد محاولة البشرية المتبقية آنذاك للعودة والنهوض من جديد.
تُعدُّ أسطورةُ برج بابل واحدةً من أكثر القصص إمتاعاً في الكتب الدينية المختلفة. وخُلاصةُ هذه القصة تشير إلى أنَّ البشر منذ فجر التاريخ تحدَّثوا بنفس اللغة. فحالما استوطنوا في بلاد الرافدين قرَّروا بناء برجٍ يصل إلى السماء، عاكسين بذلك محاولاتِ الإنسان منذ الأزل لتخليد اسمه. ولكن مشيئة الآلهة على اختلاف أسمائها سارت في اتجاهٍ معاكسٍ، فقد بُلبلت ألسنةَ البشر وشُتتّوا في أصقاع الأرض ولم يتمّ إتمامُ بناء البرج أو المدينة.
وبغضِّ النظر فيما إذا صدَّق المرء هذه القصة أم لا فإن فيها العديد من الجوانب الممتعة التي تستحقُّ إمعانَ النظر فيها.
فإذا ما حاولنا قراءة قصَّة برج بابل بشكلٍ حرفيٍّ، فإن المؤمن بأنَّ البرجَ حقيقةٌ تاريخيةُ يتوقَّع وجود آثارٍ أو بقايا تدلُّ عليه. وهو ما لم يتمّ إيجاده من قِبل علماء الآثار. وربَّما يكون المعلم الأقرب إلى برج بابل هو Etemenanki of Babylon وهي زِقورات ziggurat مخصَّصةٌ لمردوخ أحد الآلهة عند البابليين. ويُعتقَد بأنَّ هذا المعلم كان الملهم لبناء برج بابل. وبما أنَّ الزقورات كانت موجودةً في بلاد الرافدين، الأرض التي دارت فيها أسطورة البرج، ونظراً لعظمة هذا المعلم فليس من المستغرَب أن تُستخدَم هذه المعالم في أسطورة برج بابل.
أمَّا إذا حاولنا النظر إلى رمزية القصة من خلال ما ذُكِرَ في العديد من الكتب الدينية يبدو لنا المقصد الأساسي الذي ترمي إليه القصة. فبرج بابل هو رمزٌ لغرور الإنسان. فعلى سبيل المثال يرمز الآجرُّ والملاط المستخدم في البناء إلى التكبُّر والزهوِّ في ما صنعته يد الإنسان، ولذا فإن استخدام الآجرِّ والملاط بدلاً من الصخور والقطران tar والتي تُعدُّ مواداً طبيعيةً أكثر متانةً، يمكن أن يرمز إلى خطيئة الإنسان في وضع ثقته في قدراته وإمكانيِّاته. وهكذا فإن برج بابل يمكن أن يُرى كرمزٍ لمقدرات الإنسان وإنجازاته. أما القرار بتشتيت البشر فيعكس تذكيراً للإنسان بهشاشته وضعفه. وبينما ينظر البعض إلى القصة كتحذير من خطيئة الكِبَرِ والغرور، يفضل آخرون التساؤل عن طبيعة الآلهة الموصوفة في القصة. وفي النهاية تعكس القصة حكاية البشرية الأزليَّة بين الازدهار والاضمحلال.
Image: wikimedia
وبالنظر إلى القصة من جانبٍ آخر يمكننا تسليط الضوء بشكلٍ أكبرَ على البرج بحدِّ ذاته. فبدلاً من كونه درساً للبشرية حول الغرور، يمكن رؤيته كأداةٍ تعكس التنوع والاختلاف بين الناس حول العالم. فغالباً ما يكون الحديث عن الأمم المختلفة وتنوعها حاضراً عند ذكر قصة برج بابل في الكتب الدينية. وتبدو هذه المقاربة السببية التي تستخدم الأساطير لتفسير العديد من الحالات البشرية موجودة في العديد من الثقافات الأخرى. فعلى سبيل المثال في الأسطورة الهندية أعطى الخالق ألواناً مختلفةً من الماء للبشر ليشربوه ونتيجةً لذلك بدأ الناس يتحدثون بلغات متعددة. وبغض النظر عن المعرفة الهائلة التي وصلتها البشرية اليوم فإن هذه الأساطير قد ساهمت في إلقاء الضوء على العديد من ألغاز الحياة الغامضة. فضلاً عن كونها حديثاً مثيراً يتبادله الناس خلال جلساتهم.
وبالرغم من تبلبل اللغة وتشتُّت الناس حول العالم فإننا لا زلنا على اتصالٍ كدائرةٍ كاملة. فإذا أخذنا هذا المقال على سبيل المثال فإنه سيُقرَأ ربَّما من قبل أناسٍ مختلفين في شتَّى أصقاع الأرض مما يعكس اتصال البشر مع بعضهم بدلاً من تفرُّقهم. وبالرغم من أنَّ الترجمة تزيل حواجز اللغة بين الشعوب، فإن البشر قادرونَ على التواصل بين بعضهم من خلال المشاعر دون الحاجة للكلام.
ويبقى في القصة جانبٌ لم نسلِّط عليه الضوء بعد، ففي قصة برج بابل يتعاون الناس مع بعضهم لبناء المعلم الخالد في صورةٍ لا تشبه كثيراً واقع البشر اليوم حيث تسود الحروب واستغلال الفقراء والاتجار بالبشر مما يعكس ما يقوم به الجنس البشري من تدميرٍ لبعضهم البعض بدلاً من التعاون والتآلف بين بعضهم. فلربَّما حان الوقت لننهي بناء برج بابل.
Image: wikimedia
المصدر:
هنا