عزازيل التأرجح بين العقل و القلب
كتاب >>>> الجائزة العالمية للرواية العربية
منفصلاً عن أهله وعن كل شيء حوله، تتنازعه الأفكار جيئة وذهاباً، فهو الشاب غير المنتمي لوالديه، يعيش غربةً تستمر بفعل حبٍ أول ذهب به لنهاية غير التي أراد، هيبا يأخذنا معه من أقاصي مصر إلى شمال حلب، كارهاً لكل شيء في طريقه إلا النِّيل وحجارته، التي يراها وكأنها هبطت من بين أصابع الآلهة.
هيبا الذي رسمه الكاتب راهباً، قد لا تراه راهباً على الإطلاق، فهو الذي يغتَنم لحظاته القليلة مع اللواتي أحبهن، بينما تكاد دقائقه مع المسيح تُعد على الأصابع. يقضي لحظاته متصارعاً ومتحاوراً مع شيطانه، الذي جاء ليحرّره مما يعيشه من شكوكٍ بل ومن يقين.
تحكي الرواية قصة مصريٍّ في القرن الثالث للميلاد والتغيّرات في حياته التي دفعته ليبدأ رحلته الخاصة في الحياة سائراً إلى الإسكندريّة للتّبحر في العلوم، غير عالمٍ أنه سيجد الحب في انتظاره، فكانت بدايةً جديدةً لرحلة أخرى يخوضها قلبه. لكن الكاتب رفض إلا أن يلعب دور القدر و يرسم خططاً أخرى لبطله دافعاً إياه ليغادر مدينة أخرى وطريق جديداً لا يعلم عنه شيئاً.
بأسلوبٍ لا يخلو من الروعة الأدبية نصل مع البطل لحبٍ آخر يعيده ويعيدنا لنُكمل الطريق بشوقٍ لما سوف يحدث، ولسنا وحدنا معه بل إن عزازيل معنا يحيك حبكته الخاصة في قلب هيبا وعقله، يستمر في زعزعة ثوابته ودفعه نحو مجهول تلو آخر فهو ذلك الشيطان المشكّك في كل حين وفي كل خطوة بل في كل شي، يسأل الأسئلة التي لا يحب أيُّ أحد منّا أن يُسأل عنها، عزازيل الشرير الذي يقود دائماً إلى التغيير، وإن صح التعبير ما هو إلا "شمّاعة" هذا التغيير، وكما يقول "حاضرٌ دوماً لرفع الوزر، ودفع الإصر، وتبرئة كل مدان. أنا الإرادة والمُريد والمُراد، وأنا خادم العباد، ومثير العباد إلى مطاردة خيوط أوهامهم".
لا تغيب عن هذه الرواية أيضاً جغرافية مصر، التي تعطيها الواقعيّة كلها، فهيبا الذي رحل من أقصى مصر إلى أقصى سورية في حلب ماراً بالإسكندرية وسيناء والقدس وغيرها، حدّثنا عن هذه كلها، وحدّثنا عن السمك المِّملح والصيادين والقوارب في مصر، وعن صحراء سيناء وقوافلها، حتى وصل إلى حلب تلك المدينة غير المسوّرة والتي أثارت دهشته.
هي روايةٌ تحدَثك عن نفِس مُتشكّكة تائهة، لقلبٍ عاشقٍ أحياناً، مؤمناً وزاهداً أحياناً أخرى، بلُغةٍ عربيةٍ متقنة تفنَّن فيها الكاتب، رواية لا تنفصل أحداثها عن أحاديثها وعن فحواها وعبرتها.
عزازيل التي حازت على الجائزة العالمية للرواية العربية عام 2009، تبحث في النفس البشريّة تأخذك إلى أغوارها، التي ربما يخشى أغلبنا خوضها ويتجنب التفكير بها، كتابٌ أتى ليقطع اليقين بالشك ويُرينا أن الثوابت من الممكن أن تتزعزع في لحظة قوّة كما في لحظات الضعف، وكاتبٌ تمكن بذكاءٍ من إدخال أمثلةٍ متنوعة تشير لإحدى أسوأ الأمور التي قد يمرُّ بها العقل البشري، علّنا نُدرك أن التطرف بأي شكل ولأي فكرةٍ كانت ماهو إلا مضيعةٌ لنقاء الروح وقاتل صامت للحب..
في النهاية أريد ذكر جملة تمكَّنت من إيقافي عندها في الرواية "إن كُل الأشياء مثلُ بقيّة الأشياء، لايمتازُ منها إلّا ما نُميّزه نحن بما نكسوهُ من وهمٍ وطنٍّ واعتقاد"
روايةٌ مليئةٌ بالعوالم، لن نقدر بكلماتٍ قليلة أن نفيها حقّها فأنت بحاجة لعيشها مع هيبا وعزازيله لتُدرك من أين استمد هذا الكتاب روعته.