المصعد الفضائي ج2 التركيب
الهندسة والآليات >>>> تكنولوجيا الفضاء
لنكوِّن فكرةً عما يجب أن تكون عليه الحبال التي ستوصلنا إلى الفضاء الخارجي، فلنحضر خيطًا مثبتٌ عند أحد طرفيه كرة حديدية، وعند الامساك بالطرف الآخر للحبل، نقوم بتدويره حول يدينا بسرعة؛ القوة التي نشعر بها والتي تأتي من الكتلة الحديدية هو المفتاح الذي سوف يفتح أحد أبواب الحلول المقترحة في تصميم حبال المصعد الفضائي. فمن الناحية الهندسية، يجب أن تكون الأبراج الإنشائية والأجسام الواقفة على سطح الأرض قادرة على تحمل القوى الناتجة عن وزنها ووزن حمولتها. ومن هنا جاءت فكرة الاعتماد على وزن يقع أبعد من المدار الجغرافي الثابت، حيث تتغلب القوة المركزية (الطاردة) على قوة جذب الأرض لهذا الوزن مما ينتج عنه وجود قوة إضافية تسمح بإسناد برج الحبال وإعطائه مساعدة ضد جاذبية الأرض. ولفهمٍ أكثر عمقًا لماهية القوى المؤثرة على برج الحبال وكيفية توزعها على طوله بالكامل يجب في البداية توضيح بعض الأفكار والمصطلحات المتعلقة بالميكانيك التقليدي (الكلاسيكي).
أن أي جسمٍ يوجد على مقربةٍ من الأرض (أو أي جسمٍ لديه كتلة كبيرة جدًا كالأرض) ويدور حوله سيخضع إلى تأثير قوتين رئيسيتين. القوة الأولى هي قوة جذب الأرض للجسم، تزداد شدة هذه القوة بازدياد كتلة الجسم وقربه من مركز الأرض، وهذه القوة هي التي تجعل الأجسام تسقط على الأرض، والشلالات تنهمر بسرعة باتجاه المناطق المنخفضة. أما القوة الأخرى فهي قوة تنجم عن دوران الجسم حول محور معين، وهي التي تم إعطاء مثال عنها في بداية المقال. المثير في الأمر أنه إذا تم الجمع بين قوة الجاذبية والقوة المركزية الناتجة عن دوران الأجسام فيمكن للواحدة منهما أن تعادل الأخرى تلغي تأثيرها، وأكبر مثال على ذلك هو القمر؛ حيث أنه يستمر في الدوران من دون السقوط باتجاه مركز الأرض.
الآن وقد تعرفنا على هذه القوى، سوف نبدأ بفهم التحليل البسيط لماهية القوى المؤثرة على حبال المصعد الفضائي وكيفية التغلب عليها. بالاعتماد على بحث نشره قسم الفيزياء في معهد وورشستر بوليتكنك الواقع في ولاية ماساشوستس الأمريكية بعنوان "فيزياء المصعد الفضائي"، قام الدكتور أرافيند، وهو باحث هناك، بتحليل القوى على حبال المصعد باتباع طريقة المقاطع، وهي طريقة هندسية متبعة في تحليل القوى في الأجسام المعقدة، حيث يتم تقطيع الجسم المراد تحليله إلى قطع صغيرة جدًا ومن ثم ايجاد طبيعة القوى المؤثرة على هذا المقطع، وباتباع طريقة التكامل الرياضي نحصل على قيم القوى المؤثرة على كامل الجسم. بعد إجراء العمليات الرياضية، تبين أن أكثر قسمٍ من الحبل سوف يخضع للإجهاد (أي تأثير القوى عليه) هو القسم الواقع على ارتفاع 35،786 كلم، والمعروف باسم "المدار الجغرافي الثابت". ما أثار الصدمة أن الفولاذ المعروف بصلابته وقوته لن يستطيع الصمود بوجه هذا المقدار الكبير من القوى، حيث أن الإجهاد الناتج عن القوى سيكون أعلى بـ 76.4 مرة من قدرة الفولاذ. ولحل هذه المشكلة، اقترح البحث أن يتم تكبير مساحة مقطع الحبل عند "المدار الجغرافي الثابت" مما يسمح بتوزيع القوى وتخفيف الإجهاد على الحبل. ولكن مع ذلك يبقى الفولاذ غير قادرٍ على التحمل، بسبب ضعف قدرته على تحمل الإجهادات بالإضافة إلى وزنه الكبير.
لحسن الحظ، توجد لدينا أنابيب الكربون التي تعد أقوى مادة من حيث قدرتها على تحمل الإجهادات، وبالمقابل خفة وزنها الذي يصل 15% من وزن الفولاذ ومرونتها الفائقة المشابهة لمرونة البلاستيك. فما إن يتمكن العلماء من تصنيع أليافٍ منها، حتى يغدو بالمقدور تصنيع الحبال القادرة على العمل في المصعد الفضائي. ويقول الدكتور برادلي إدواردز من "مؤسسة نحو الفضاء" : "في الماضي، كان إيجاد المادة الملائمة لبناء المصعد يشكل تحديًا كبيرًا، ولكن الآن يمكننا الاستفادة من الأنابيب الكربونية وبمساعدة آلات الغزل تصنيع حبال طويلة التي سوف يكون بإمكانها شق عباب الفضاء".
يضيف توم نوجنت، وهو مدير الأبحاث بمجموعة ليفت بورت، أن قدرة أنابيب النانو العالية على تحمل الإجهادات وقوى الشد تجعل عملية بناء مصعدٍ فضائي، ولو نظريًا، أمرًا ممكنًا وسهلًا.
في الوقت الراهن، هناك طريقتان يمكننا بهما تشكيل الحبال من الأنابيب النانوية. الطريقة الأولى تتمثل بتشكيل أنابيب نانوية بحيث يصبح طول كل أنبوب عدة أمتار، ومن ثم يمكننا تشكيلها مع بعضها وربطها لتصبح حبال. لكن هناك مشكلة في جعل أنابيب الكربون طويلة؛ حيث أنه في عام 2005، كانت أطول أنابيب الكربون التي تم إنتاجها لم يتجاوز طولها سنتيمترات قليلة. في المقابل، يمكننا الإستغناء عن عملية تطويل أنابيب الكربون من خلال الاستفادة من أنابيب الكربون الصغيرة ووضعها في قالب أو نسيج من البوليمر (مثل البلاستيك)؛ حيث يمكننا حينها إنتاج مواد طويلة ومناسبة للاستخدام العملي. ولكن هذه الطريقة أيضًا لها مساوئها؛ لأن سيتم انتزاع القالب البوليميري من أنابيب الكربون عند تعرضه لعمليات الشد القوية.
ولكن ما إن تمكنا من إنتاج حبال ألياف الكربون الطويلة، سوف نتمكن من ربطها على بكرة موضوعة على متن مركبة فضائية، وعندما تصل هذه المركبة إلى مدارٍ أرضي منخفض، سوف تنزل حبال الكربون تدريجيًا إلى سطح الأرض، وفي الوقت ذاته، يمكن للبكرة الموجود داخل المركبة الفضائية متابعة التحرك بعيدًا باتجاه "المدار الجغرافي الثابت". وعند وصول حبل ألياف الكربون إلى الغلاف الجوي للأرض، سوف يتم التقاطه وثم إنزاله وربطه على القاعدة التي ستمثل مركز الانطلاق لمصعد الفضاء.
وفي القسم الثاني من هذا المقال نتفحص مكونٍ آخر لا يقل أهميةً عن حبال المصعد الفضائي وهي قمرة الصعود .
ستكون هذه القمرات مثبتةً بحبال المصعد الفضائي عن طريق دواليب، وتُحركها محركات كهربائية ذات عزم دوران عالي بالقدر الكافي لتحمل عبء الأوزان المحمولة داخل المصعد. ولكن السؤال القائم يتمحور حول إيجاد مصدر الطاقة القادر على تغذية هذه المحركات الكهربائية الشرهة جدًا للطاقة. ولحسن الحظ، فإن التقانة (التكنولوجيا) التي سوف تُحقق ذلك موجودةٌ بالفعل في أيامنا هذه ويتم العمل على تطويرها يومًا بعد يوم وهي تقنية الدفع الليزري. هذه التقنية تقوم أساسًا على إطلاق حزمة عالية الطاقة (حوالي 2.4 ميغاوات) من أشعة الليزر. وتتميز أشعة الليزر بقدرٍ قليلٍ جدًا من التشتت، وستكون هذه الحزمة موجهةً باتجاه ألواحٍ شمسية مثبتة على متن المصعد الفضائي. ستحول هذه الألواح الشمسية بدورها مقدار الطاقة القادم من الليزر إلى تيارٍ كهربائي، تماما مثلما تفعل هذه الألواح عند استقبالها أشعة الشمس. وسيغذي التيار الكهربائي الناتج عن هذه الألواح الشمسية محركات المصعد الفضائي الكهربائية وكافة مكونات الاتصال والمكونات الإلكترونية المحمولة أيضًا.
ويعود السبب وراء تصميم مصدر الطاقة بحيث لا يكون محمولًا على المصعد إلى التقليل من وزن المصعد الفارغ، حيث أن زيادة الوزن سوف تقلل من مقدار الحمولة التي يتمكن المصعد من نقلها، وبالتالي زيادة كلفة النقل للكيلوجرام الواحد من الحمولة.
وبالعودة إلى المصاعد (المحركات والدواليب معًا)، فإنه من المقدَّر أن يكون وزنها حوالي 7 أطنان (كل 1 طن يساوي 1000 كيلوغرام)، وكلما زادت كمية الحمولة، زاد وزن وحجم المصاعد اللازمة. وبالتالي سوف تتمكن المصاعد ذات الاستطاعة 20 طن من رفع حمولة يصل وزنها إلى 13 طن. وتقدر السرعة التي سوف تتمكن المصاعد من دفع الحمولة عاليًا إلى حدود 200 كلم بالساعة مما قد يرفع مدة السفر من الأرض إلى وجهة المصعد في الفضاء الخارجي (لنقل عند المدار الجغرافي الثابت) إلى 8 أيام.
وبالحديث عن مكونات المصعد، فيجب ألا ننسى القاعدة الأرضية التي ستشكل بوابة الصعود على متن المصعد الفضائي والتي ستعتبر "مطارًا" فضائيًا. هذه القاعدة سوف تكون حصرًا مشيَّدة على خط الاستواء، حيث أنه المكان الوحيد على الأرض الذي يتساوى فيه الاتجاه بين سرعة دوران الأرض حول محورها وسرعة الوزن الثقيل الواقع عند نهاية الطرف الآخر لحبال المصعد الفضائي. ومن المحتمل تشييد قاعدة المصعد الفضائي على متن جسم متحرك مما يسمح بالمناورة وتغيير مكان المصعد بما يتوافق مع المتغيرات الجوية، الأمر الذي يسمح بتحييد أية اشكالات من شأنها التأثير على عمل ووظيفة المصعد الفضائي.
المصعد الفضائي شأنه شأن أي جسمٍ ميكانيكيٍ آخر، فهو معرَّض لتأثيرات خارجية قد تؤثر سلبًا على فعاليته وقدرته على نقل البضائع من الأرض إلى الفضاء، أو حتى من الممكن أن تؤدي إلى تدميره! هذه الأخطار سوف يتم عرضها تباعًا في ما يلي. أولًا: الحطام الفضائي الدقيق والذي يدور في المدار الأرضي المنخفض وبسرعة 8 كلم بالثانية، والذي يتكون من بقايا حطام المعدات المستخدمة في نقل الأقمار الصناعية ومكونات المحطة الفضائية الدولية وبراغي وعدد ميكانية صغيرة والتي من شأنها التأثير على بنية الحبال والمصاعد الفضائية أيضًا. هذا التلوث الفضائي الذي قد عرضه الفيلم الشهير Gravity والذي يصور مدى خطورة هذا النوع من التلوث على المستقبل الفضائي للبشر. سوف يكون الحطام الدقيق قادرًا على تكوين فتحات دقيقة في نسيج الحبال وغلاف المصاعد وحسب، على عكس قطع الحطام الكييرة التي سوف تتمكن من خرق تركيب المصعد الفضائي وإحداث كارثة ضخمة. ولحسن الحظ فإن قطع الحطام الكبيرة متباعدة عن بعضها، ويمكن تعقبها بسهولة، ويمكن أيضًا تفاديها عن طريق تحريك القاعدة الأرضية التي جرى التحدث عنها في الفقرة السابقة. إلى جانب التلوث الفضائي الدائر حول الأرض، هناك أيضًا العواصف الجوية التي تحدث داخل الغلاف الجوي، والتي من شأنها التأثير على بنية الحبال والتسبب باهتزازات وقوى من الممكن أن تزعزع استقرار المصعد الفضائي.
كذلك يجب على المكونات الميكانيكية للمصعد الفضائي أن تكون قادرة على تحمل الإجهادات الناشئة عن تقلب الأجواء في البيئات التي سوف يعمل المصعد الفضائي فيها، سواء أكانت البيئة الأرضية التي تكثر فيها العواصف والرياح أم كانت البيئة الفضائية التي يشتد فيها الإشعاع الشمسي.
في النهاية، وبالتحدث عن الجوانب الاقتصادية للمصعد الفضائي، فهناك تقدير مسبق للتكلفة المتوقعة تقدر بحوالي 10 مليار دولار أمريكي، وهذه الكلفة تشمل جميع المكونات التي سوف تستخدم في بناء البنية التحتية للمصعد الفضائي. أما القيمة التشغيلية للمصعد، فمن المتوقع أن تبلغ حوالي 135 مليون دولار بالسنة على اعتبار أنه سيكون هناك 50 رحلة ذهاب وإياب بالسنة الواحدة، وبهذا تصل كلفة شحن الكيلوجرام الواحد للحمولة إلى 250 دولار.
المصادر:
هنا
هنا
هنا
هنا