الفنُّ المصريُّ القديم، مرآةٌ تعكسُ حضارة
الفنون البصرية >>>> فن وتراث
يمكنُ القولَ أنّ الثقافةَ المصريةَ هي أفضلُ مثالٍ معروفٍ للفنِّ القديمِ في منطقةِ حوضِ المتوسّطِ و مساهمٌ أساسيٌّ في فنِّ آواخرِ العصرِ الحجريِّ الحديثِ قبلَ ظهورِ الحضارةِ الإغريقيّةِ في القرنِ السادسِ قبل الميلاد. في حين ارتبطَ فنُّ العمارةِ المصريِّ القديمِ بالأهرامات، امتازَ الفنُّ بارتباطِ كتابةِ النصوصِ استناداً للصورِ والرموزِ الهيروغليفية واستعمالِ الأسلوبِ الهيروغليفيِّ الدقيقِ في الرسمِ والنّحتِ الحجريّ. فقد ساهمت كلٌّ من الجغرافيةِ وأعرافِ المرحلةِ السياسيّةِ والاجتماعيةِ والدينيةِ بتشكيلِ الحضارةِ المصرية، في حين ساهمت الحدودُ الصحراويةُ ونهرُ النيل بتطويرِ الفنونِ والحِرفِ بشكلٍ واسعٍ ولعدّةِ قرونٍ دونَ عوائقِ الغزوِ الخارجيِّ أو الصراعِ الداخليّ. برزَ دورُ الفنِّ في تمجيدِ الآلهةِ والفراعنةِ وتسهيلِ عبورِ الناسِ للحياةِ الآخرة، والتأكيدِ على القيَمِ ونشرِها وصونِها. فبسببِ الاستقرارِ العامِّ في الثقافةِ والحياةِ المصرية، تميزت كلُّ الفنونِ بما فيها العمارةُ والنحتُ والرسمُ والأشغالُ المعدنيةُ والصياغةُ بالالتزامِ المحافظِ للغايةِ بالقواعدِ التقليديةِ مفضلةً الترتيبَ والشكلَ على الإبداعِ والتعبيرِ الفنيّ.
قواعدُ الرسم:
نظراَ لكونِ الحضارةُ المصريةُ القديمةُ حضارةً دينيةً بامتياز، فقد شملت معظمُ الأعمالِ الفنيةِ تصويرأً للعديدِ من الآلهةِ والفراعنةِ باعتبارِهم آلهةً أيضاَ. بالإضافةِ لذلك، أدّى احترامُ المصريين للأوامرَ والقيمِ المحافظةِ إلى تأسيسِ قواعدَ مركبةٍ لكيفيةِ تصويرِ الفنانين للآلهة والبشر. فعندَ رسمِ الصورةِ تُحسَب الأحجامُ حسبَ مكانةِ الشخصِ الاجتماعيةِ وليسَ حسبَ القواعدِ الفنيةِ العاديةِ للمنظورِ الخطّي. استُخدمِت هذه القاعدةُ لرسمِ الأشخاصِ لمئاتِ بل لآلافِ السنين حيث يُرسم الرأسُ والسّاقان بشكلٍ جانبيٍّ دائماً في حين تُصوَّر العينان والجزءُ العلويُّ للجسمِ من الأمام. أمّا فيما يتعلّقُ بالنحتِ والتماثيلِ، تُلزم القواعدُ بأن تكونَ تماثيلُ الذّكورِ أغمقَ لوناً من تماثيلِ الإناث، أمّا في وضعيةِ الجلوسِ ينبغي أن تكونَ أيدي التمثالِ على ركبِه. حتى الآلهةُ كانت تصوّر بنفسِ الزيِّ دائماً وحسبَ مكانتِها في التسلسلِ الهرميِّ للآلهة. فإله السماءِ هوروس كان يُرسَم دائماً برأسِ صقرٍ في حينِ إلهُ الشعائرِ الجنائزيةِ انوبيس كان برأسِ ابنِ آوى.
استعمالُ الألوان:
كان استعمالُ الألوانِ في الرسومِ المصريةِ منظّماً ورمزياً استخدمَ فيها الرسامونَ ستةَ ألوانٍ وهي: الأحمر والأخضر والأزرق والأصفر والأبيض والأسود. فالأحمرُ لونُ القوّةِ كانَ يرمزُ للحياةِ والنصرِ وللغضبِ والنارِ أيضاً. والأخضرُ للنمو والخصبِ، بينما الأزرقُ رَمزٌ للخَلقِ والبَعثِ في حين كان الأصفرُ للأبديةِ كصفاتِ الشمسِ والذهب. فاللون الأصفر كان لونُ الإله راع و لونُ كلِّ الفراعنةِ ممّا يفسّرُ صنعَ التوابيتِ والأقنعةِ الجنائزيةِ من الذهبِ ليرمز لخلودِ وأبديةِ الفرعون المعتبر إلهاً أصلاً. اللونُ الأبيض هو لونُ الصفاءِ، يرمزُ لكلِّ المقدّساتِ واستُعمِل لأدواتِ الكهنة الدينية. أمّا اللونُ الأسود فهو لونُ الموتِ ورمزٌ للعالم الآخر والليل.
فنُّ الحياةِ الآخرة:
كلُّ اللوحاتِ المُكتَشفة في قبورِ الفراعنةِ ومسؤولي الدولةِ ذوي المراتبِ العليا كانت تصوّرُ مشاهداً من الحياةِ الآخرةِ كمشهدِ الحياةِ مابعدَ الموتِ وخدماً وقوارباً وطعاماً لتساعدَ الميتَ في رحلةِ عبورِه للعالمِ الآخر بما يُعرَفُ بالفنّ الجنائزيّ. هذه اللوحاتُ كانت تُرسَم إمّا على ورقِ البُردي أوعلى ألواحٍ باستعمالِ ألوانٍ شمعيةٍ أو على الجدرانِ كلوحاتٍ زيتيةٍ جصّيةٍ. أما المنحوتاتُ والتماثيلُ، فقد كانت تُصنعُ من الطينِ والخشبِ والمعادنِ والعاجِ والحجرِ وتُطلَى بألوانٍ صارخة.
حركاتٌ فنية:
بعد تغييرِ اسمِه لـ أخناتون وعبادتِه لإله الشمس آتين فقط، لعبَ الفرعون أمينحوتب (زوج الملكة نفرتيتي) دوراَ كيبراَ بخلقِ نهضةٍ ثقافيةٍ بفنونِ الرسمِ والنّحتِ حيثُ أصبحت تتّسمُ بالطبيعيةِ والديناميكيةِ بعدَ أن كانت تتّصفُ برمزيةِ التصوير. لكن بعدَ موتِه قامَ الفرعون توت عنخ اتين الأبن (والذي غيّر اسمه إلى توت عنخ آمون) بالرجوعِ إلى عبادةِ آمين (أو آمون) ممّا أجبر الرسامين والنحاتين على العودةِ إلى قواعدِ الرسمِ والنحتِ الرمزيةِ السابقةِ والتي استمرّت حتى العصر الهلنتستي الإغريقي. فقد ساهمت الحركةُ الهلنستيةُ الاغريقيةُ الفنيةُ بتشجيعِ فنّاني مصرَ القديمةِ على العودةِ إلى الحركةِ الفنيةِ التي بدأها اخناتون في التصويرِ الطبيعيّ للأشخاصِ في الرسمِ والنحتِ لتصبحَ اللوحاتُ متسمةً بالواقعيةِ بألوانٍ هادئة. ومن أشهرِ اللوحاتِ المصريةِ الهلنستيةِ في العصرِ الكلاسيكيّ القديمِ هي سلسلةُ "لوحاتُ مومياءِ الفيوم" المكتشفةُ غربَ نهرِ النيل. وُجِدَت هذه اللوحاتُ متّصلةً بكفنِ مومياء، وتمثّلُ السلسلةُ أكبرَ لوحةٍ فنيةٍ أصيلةٍ لجسدٍ واحدٍ من العصورٍ القديمة.
المصدر:
هنا