غاليلو غاليلي - ثورة في علم الفلك ...!
الفنون البصرية >>>> فن وتراث
جسد فيها الرسام "كريستيانو بانتي" عام 1857 جلسة المحاكمة بريشته و ألوانه
ونحن سنتجاوز اللون والقماش وندخل إلى كواليسها لنزوّدكم ببعض الحقائق حول "غاليلو" ومحاكمته الشهيرة وبعض الإشاعات التي نعتبرها من المسلّمات إلا أنها ستصدمنا بمدى اللغط الدائر حولها.
وُلِدَ "غاليلو فينشينزو غاليلي" في مدينة بيزا الإيطاليّة في 15 شباط/فبراير عام 1564، والدته جوليا دلي أمّاناتي في عام 1581 التحق بكليّة الطب في مدينة بيزا بناءً على رغبة والديه، ولكنّه كان مفتوناً بالفيزياء والرياضيات لذلك عاد إلى فلورنسا دون أن يكمل دراسته، وانتقل إلى الرّياضيّات، وبعد أن أنهاها اشتغل بالتعليم فدرّس الفيزياء وهندسةَ إقليدس وعلمَ فلكِ أرسطو في جامعة بادو لمدّة 18 عام (1592-1610)، وكانت له إنجازات عديدة كاختراع مقياس الحرارة "ميزان الحرارة البدائيّ"
في وقتٍ مبكّر من عام 1598 اعترفَ في مراسلاته مع كيبلر أنّه "كوبرنيكي"، أي أنّه يدعم نظريّة "كوبرنيكوس" التي تنادي بمركزيّة الشمس بدلاٌ من الأرض على عكس ما كان متعارَفاً عليه في ذاك الوقت، وفي عام 1604 أصبحَ يلقي محاضرات معارضة لفكرة مركزيّة الأرض
كانت له العديد من المشاهدات الفلكيّة، فقد تحدّث عن رصده لجبال على سطح القمر وبقع على الشمس، وأثبتَ أنّ درب التبّانة يتكوّن من نجومَ صغيرةٍ، كما لاحظَ وجود أربع كويكبات تدور حول كوكب المشتري، وكشَفَ عن وجود "فصوص" حول كوكب زُحَل (لاحقاً عُرّفت هذه الفصوص أنها خواتم)، كما كشف مراحل كوكب الزُّهرة
لفتت هذه الاكتشافات انتباه البابا "بولس الخامس " والكاردينال " بيلّارمين" وجعلتهما ينظران بعين الريبة تجاه "غاليلو"، خاصّةً أنّهما كانا يعتبران نموذج "كوبرنيكوس" الذي نادى بمركزيّة الشّمس "بِدعَةٌ حمقاءَ سخيفة"، وتطوّر العداء بينه وبين الكنيسة حتى وصل إلى مرحلة أكثر تعقيداُ انتهت بمحاكمته، وفي مقالنا هذا سنناقش أكثر الشائعات جدليّةً في فصول هذه المحاكمة، والأفكار المغلوطة حولها
أولاً :
يسود اعتقاد أن غاليلو "أثبت" أنّ الأرض تدور حول الشّمس، وهذا اعتقادٌ خاطئٌ، وإليكم القصة الكاملة:
اقترح "كوبرنيكوس" نموذجاً لمركزية الشمس (أي أنّ الشمس ثابتة والأرض تدور حولها) قبل ولادة "غاليلو" بإثنين و ثلاثينَ عاماً، وقد تمّت مناقشة نظريته من قِبَل علماء فَلَك، ونُشِرَت تفاصيل عنها في عام 1539 كان نموذج "كوبّرنيكوس" واحداً من عدّة نماذجَ كانت قيدَ المناقشة في عصر "غاليلو"، حيث انقسمت الآراء في الساحة الفلكيّة بين من اعتقد بمركزيّة الأرض ومن اعتقد بمركزيّة الشمس، أي أن غاليلو لم يكن الأوّل في مجاله، ورغم أنّه أضاف الكثير إلى هذه النقاشات عن طريق ملاحظاته باستخدام التليسكوب، خاصةً من خلال بحثه الذي تحدّث عن كوكب الزهرة ومركزيّة الشمس و لكنّه لم يثبت أيٍّ من هذه الملاحظات، فإنّ عدم وجود منظار جيّد كان إحدى المشاكل العديدة التي واجهت علماء الفلك بشكل عام وعرقلت الطريق أمام وصولهم لنتائج يقينيّة مثبتة، حتّى أنّه كان لغاليلو آراء خاطئة فيما يخصّ شكل مدارات الكواكب، فقد رفضَ نظريّة "كيبلر" التي تقول أنّ المدارات إهليلجيّة و أصرّ على أنها دائريّة، و فكرته بأنّ المدّ والجزر سببهما دوران الأرض بالتالي يمكننا أن نقول أن فكرة "إثباته" لمركزيّة الشمس كانت أسطورة.
ثانياً:
"الكنيسة رفضت العلم، وأدانت نظريّة مركزيّة الشمس ونموذج كوبرنيكوس بشكل خاص" هذه الفكرة أيضاً هي محض ادّعاء، على العكس كان أهم أتباع "غاليلو" والمدافعين عنه من رجال الكنيسة و بالمقابل، وهنا المفاجأة، كان العديد من مهاجميه من العلماء بشكل عام كانت الكنيسة الكاثوليكية متقبّلة للتحليل العقلاني للعالم المادّي، حتّى قبل قرونٍ عدّة من ولادة "غاليلو"، الأمر الذي مهّد الطريق أمام أتباع مفكري اليونان أمثال "أفلاطون" و"أرسطو" و"أرخميدس"، والعديد غيرهم من علماء العصور الوسطى، لإنشاء فلسفة الطّبيعة "هي ما نطلق عليه اليوم اسم العلوم" ووضع أسسَ نهضةِ العلوم الحديثة كما نعرفها الآن، أيّ أنّ الكنيسة لم تكن ضد العلم بالمطلق وحتّى بالنسبة لنموذج "كوبرنيكوس" فلم ترفضه بشكل كامل، وقد قام المطران "غيس" بتشجيع "كوبرنيكوس" على المتابعة بعد نشر ملخّص عن أفكاره عام 1530، حيث كان متردّداً في نشره خوفاً من اعتراض الكنيسة، وفي عام 1533 طلب البابا "كليمنت السابع" من الفيلسوف الألماني "يوهان فودمانستاد" أن يلقي محاضرةً في حدائق الفاتيكان حول نموذج "كوبرنيكوس"، وقد فُتِن البابا بها لدرجة أنه كافأه بمخطوطٍ قيّم بحلول عام 1616 كان هناك ما لا يقلّ عن سبع نماذج لنظريّات كونيّة قيد المناقشة في الحلقات العلميّة وقد كان رجال الكنيسة متواجدين في معظم هذه النقاشات، حتّى أنّ مجموعة من علماء الفلك اليسوعيين أنشؤوا تليسكوباً خاصاً بهم وحصلوا على نفس نتائج غاليلو لم يكن أيٌّ من هذه النماذج مثاليّاً بعيداً عن الانتقادات، لكن رأي الأغلبيّة كان يتّجه نحو فكرة مركزيّة الأرض، أيّ أنّ موقف "غاليلو" كان ضمن الأقليّة ولكنّه كان مفهوماً جيّداً من قِبَل رجال الكنيسة، بكلّ الأحول كانت فكرة مركزيّة الشّمس آنذاك تعتبر فكرةً بديلة تستحقّ الدراسة
ومن جهة أخرى لم يكن "غاليلو" نفسه بعيداً عن الأجواء الدينيّة فقد كان يشيد بالتعاليم المسيحيّة التي تلقاها و يعتبر نفسه أحد تلامذة المسيح.
ثالثاً:
من الأفكار المغلوطة المنتشرة بشكل واسع حول قضية "غاليلو" أنه سُجِنَ وكُبِّل بالسلاسل وهُدِّد بالحرق والتعذيب
في واقع الأمر يمكن اعتبار هذا الاعتقاد أقرب للخرافات والأساطير والخيال الأدبي، وأكثر ما غذّاها كتابات "فولتير" الشهيرة التي تحدّثت عن خوف "غاليلو" من الحرق وكيف أنّه قضى أيامه الأخيرة في الأبراج المحصّنة لمحاكم التفتيش
أمّا الحقيقة أنّ "غاليلو" قضى وقته عام 1633 كضيف شرف عند العديد من رجال الكنيسة في القصور الفخمة في روما، ولم يُعذَّب أو يعش في خطرٍ آنذاك، ليس فقط تقديراً لسنّه وإنّما أيضاً بسبب تعاونه التّام مع لجنة التحقيق
و تشير الأحداث إلى أنّه تمّ وضع "غاليلو" تحت الإقامة الجبريّة في الفيلا الخاصة به في فلورنسا لمدّة تسع سنوات -كانت الأخيرة من عمره- حيث أنهى العديد من أعماله قبل وفاته
رابعاً:
من أشدّ الاتهامات المغلوطة حساسيّة أن الكنيسة أدانت نظريّة مركزيّة الشمس لأنّها تتناقض مع الإنجيل الذي يقدّم تفسيراً آخر للموضوع
في الواقع لم تقم الكنيسة الكاثوليكية بهذه الإدانة، لأنّها كانت تعتقد أن التفسير الحرفي لآيات الإنجيل أقل أهمية من مستويات التأويل الأخرى، إذ من الممكن أن يكون المعنى مجازيّاً أو رمزيّاً بحتاً
وتظهر هذه المنهجيّة في التفكير في كتابات الكاردينال بيلّارمين" في عام 1616":
"إن كان هناك ظاهرة حقيقيّة تقول إنّ الشمس هي مركز الكون و أنّ الأرض في السماء الثالثة، و أنّ الشمس ثابتة لا تدور، بل الأرض هي التي تدور حول الشمس عندها علينا أن نكون حَذرين في تفسير الكتاب المقدّس الذي يُظهر عكس ذلك، ولكنّ هذا أمرٌ لا يتطلّب العجلة، و عن نفسي لن أؤمن بهذه النظريّة حتى أرى البراهين عليها "
لم يكن الكاردينال جاهلاً بالعلوم، إذ أنّه كان محاضراً جامعيّاً في فلسفة الطبيعة وناشطاً في النقاشات التي تتناول الكون، لذا فقد كان يعلم -كما غاليلو-أنّ إثبات أنّ الشمس مركز الكون كان ما يزال بعيداً جداً
خامساً:
"إدانة "غاليلو" بأنه استخدم العلم للبحث حول تعاليم الكنيسة والتشكيك فيها"
وهذا أيضاً من الادّعاءات الخاطئة فكما ذكرنا سابقاً لم تكن الكنيسة تدين البحث العلميّ، وفي الواقع، معظم العلماء في ذلك الوقت كانوا أيضاً رجال كنيسة، حتى أن الكنيسة اعتبرت أن الوحي الإلهيّ والوحي العقليّ جاءا من نفس المصدر النّهائي، وأي تناقض بينهما سببه سوء الفهم
في عام 1632 طلب البابا من "غاليلو" تقديم كتاب يعرض نماذج "كوبرنيكوس" و"بطليموس" مع الحجج و البراهين لنقاط القوّة والضعف لكليهما، وبالفعل قدّم "غاليلو" كتابَه وكان واضحاً جداً انحيازه لنموذج "كوبّرنيكوس" واعتباره متفوّقاً، وقد وضع بعض البراهين مستخدماً تعبيراً يستخدمه البابا "إسمبليشو" وتعني بالإيطالية "أحمق"، وهذا ما أغضب البابا وجعله يسحب دعمه لغاليلو ويسمَح بأن يُحاكَم في محاكم التفتيش
يمكننا أن نرى بوضوح أن أعمال "غاليلو" كانت عبارةً عن سلسلة من التعقيدات وسوء الفهم، وإن كانت محاكمته قد دخلت التاريخ فقد نُسِجت حولها العديد من الشائعات والمبالغات والاعتقادات الخاطئة، وفي نهاية المطاف حتّى الكنيسة قبلت فكرة مركزيّة الشمس.
المصادر:
"Italiano all'università - levello B2- attività "
هنا
هنا