فرضية الكون القابل للحوسبة - الجزء الثاني
المعلوماتية >>>> عام
لم يُعثر على أي وصفٍ للكون كحاسوب قبل القرن العشرين. صحيحٌ أن الذريين (atomists) الإغريق القدامى اعتبروا أن الكونَ مشكّلٌ من تفاعلاتِ أجزاء صغيرة، لكنهم لم يوضحوا ما إذا كانت هذه الأجزاءُ عبارة عن وحدات لمعالجة المعلومات. ابتكرَ لابلاس (Laplace) كائنًا افتراضيًا يقوم بحساب مستقبل الكون كله، غير أنه اعتبره كيانًا منفصلًا عن الكون وليس الكون نفسه. بينما لم يكن تشارلز بابج ( Charles Babbage) متحمسًا لاستعمال جهازه كنموذجٍ للظواهر الفيزيائية، بعكس آلان تورينغ الذي كان مهتمًا بأصل الأنماط وقام بعدة أبحاث عن الموضوع.
كان أولُ وصف صريح للكون كحاسوبٍ ضخم في عام 1956 في رواية الخيال العلمي "The Last Question" لـ إسحاق أسيموف (Isaac Asimov). في هذه القصة، يخترعُ البشرُ مجموعةً من الحواسب التناظرية لمساعدتهم على استكشاف مجرتهم أولًا ومن ثم المجرات الأخرى.
الرابط بين الحوسبة وعلم الفيزياء بدأ بالظهور في بداية عام 1960 من قِبل رولف لانداور (Rolf Landauer) في شركة IBM. فكرة أنه يمكن اعتبار الكون كحاسوب اُقترحت من قِبل فريدكن (Fredkin)، وبشكل مستقلٍّ من قِبل كونراد زوس (Konrad Zuse). فريدكن وزوس اقترحا أن الكونَ يمكن أن يكون نوعًا من الحواسيب الكلاسيكية سُميت بالـمشتغلات الآلية الخلوية التي تضمنت صفوفًا من البتات التي تتفاعل مع البتات المجاورة لها. وحديثًا، طور ستيفن وولفريم هذا المقترحَ وبسّطه.
فكرةُ استعمال المشتغلات الآلية الخلوية كأساسٍ لنظرية الكون تبدو مثيرةً للاهتمام، لكن مشكلتها أن الحواسيب الكلاسيكية غيرُ قادرة على إعادة إنتاج الظواهر الكمومية، كالتشابك الكمي (Quantum entanglement). وهناك سبب آخر مثلما ذكر في السابق وهو أن محاكاةَ جزء صغير من الكون على حاسوب كلاسيكي تتطلب حجمًا يعادل حجم الكون. لذلك فمن المستحيل اعتبار الكون كحاسوب كلاسيكي مثل المشغل الآلي الخلوي. [4]
الحدود الفيزيائية للحوسبة:
بامتلاك المعارف اللازمة لمبادئ الحوسبة الكمومية وميكانيكا الكم، يصبحُ من السهل معرفةُ كمية الحوسبة التي في إمكان أي نظام فيزيائي القيام بها.
أظهر سيذ لويد (Seth Lloyd) في ورقته البحثية: Ultimate Physical Limits to Computation، كيف يمكن حسابُ القدرةِ الحوسبية لأي نظام فيزيائي بمعرفة كميةِ الطاقة الموجودة في النظام وحجم النظام. كمثال، استعملَ هذه الحدود لحساب القدرة الحوسبية القصوى لـ كيلوغرام واحد من المادة مخزنة في حجم لتر واحد من الفضاء. يزنُ الحاسوب المحمول الاعتيادي واحد كيلوغرام تقريبًا، ويأخذ حجمَ واحد لتر من الفضاء، لذلك سنسمي الحاسوب ذو الواحد كيلوغرام والواحد لتر بالـ«الحاسوب المحمول الفائق».[4]
Image: http://iknigi.net/avtor-set-lloyd/88598-programmiruya-vselennuyu-kvantovyy-kompyuter-i-buduschee-nauki-set-lloyd/read/page-14.html
«الحاسوب المحمول الفائق» هو حاسوب بوزن 1 كغ وحجم 1 لتر (قياسات حاسوب محمول عادي)، حيث وضع كل جسيم أولي بداخله لغرض القيام بعملية الحوسبة. في إمكان الحاسوب المحمول الفائق القيام بـ عشرة ملايين بلايين بلايين بلايين بلايين بلايين عملية منطقية في الثانية على عشرة آلاف بليون بليون بليون بت.[4]
يا ترى ما مدى قوة الحاسوب المحمول الفائق؟ إن أولَ عائق أساسي أمام الأداء الحوسبي الجيد هو الطاقة، فكمية الطاقة تحدد مدى السرعة. مثلًا، لنعتبر إلكترونًا ذا بت واحد، والذي يتحرك هنا وهناك، كلما كانت لدية طاقة كبيرة كلما تحرك بسرعة هنا وهناك واستطاع تغيير حالة الكيوبت (bit-flip) لديه بسرعة.
السرعةُ التي يغير فيها الكيوبت حالتَه تخضع لنظرية تعرف بـ نظرية مارغولوس-ليفيتين (Margolus-Levitin). تقول النظرية أن أقصى معدلٍ للسرعة التي يتغير وفقها نظامٌ فيزيائي معين (إلكترون مثلًا) متناسبٌ مع طاقته؛ كلما توفرت الطاقة، كلما قل الزمن اللازم للإلكترون للانتقال من حالة لأخرى. النظرية عامة جدًا، فهي لا تهتمُّ بأي نظام يقوم بتجميع المعلومات ومعالجتها، بل تهتم فقط بكمية الطاقة التي يمتلكها النظامُ الفيزيائي لمعالجة هذه المعلومة.
لنعُد إلى مثال الحاسوب الفائق، تمتلكُ جميع الذرات والإلكترونات المكونة لحاسوبنا درجةَ حرارة أعلى بقليل من درجة حرارة الغرفة (room temperature). تكونُ كل ذرة من هذه الذرات وكل إلكترون من هذه الإلكترونات في حالة اهتزازٍ وكمية الطاقة اللازمة لكل هزة هي نفسها بين الإلكترونات والذرات. ببساطة فإن كميةَ الطاقة في كل هزة متعلقة بدرجة الحرارة وليس بحالة الإلكترون أو الذرة. لهذا تتساوى الوتيرة التي تغير وفقها الإلكترونات حالاتها- من هنا إلى هناك أو من 0 إلى 1- مع وتيرة تغير حالة الذرات والإلكترونات والذرات تغير حالة كيوبتاتها بالوتيرة نفسها.
تقدمُ نظريةُ مارغولوس-ليفيتين طريقةً لحساب قيمةِ معدل السرعة القصوى التي يمكن لكيوبت فيها تغيير حالته. نأخذ قيمةَ الطاقة اللازمة لتغيير حالة الكيوبت، ضرب 4 ثم نقسمها على ثابت بلانك (Planck’s constant) فنحصل على عدد المرات التي يمكن فيها لكيوبت أن يغيرَ من حالته في الثانية الواحدة. عند تطبيق هذه القاعدة على الحاسوب الفائق، وجد سيذ أن كلَّ ذرة وإلكترون في حالة اهتزاز في الحاسوب يغير حالته بحوالي 30 تريلون مرة في الثانية
(30 × 1210). [4]
طبعًا، المعدل الذي تغير به الإلكترونات والذرات حالاتها يفوقُ المعدلَ الذي تغير به الحواسيب التقليدية بتاتها.
الحاسوب الذي نكتب عليه -يقول «سيذ»- يستهلكُ من الطاقة لشحن وتفريغ المكثفات التي تحفظ بيتاته ما يعادل ملايينَ المرات كمية الطاقة التي تستهلكها الإلكترونات والذرات لتغيير حالاتها. لكنه -يواصل «سيذ»- يعمل أبطأ بـ10،000 مرة من ذرات الحاسوب الفائق.
يمكننا حساب كمية الطاقة اللازمة للقيام بعملية الحوسبة على الحاسب الفائق باستعمال عبارة آينشتاين الشهيرة:
.سرعة الضوء cوx،كتلة الحاسب m ،الطاقة E حيث تمثل ،E = mc2
يزِنُ الحاسوب الفائق 1 كغ، وتساوي سرعة الضوء (300 مليون متر في الثانية)، بتطبيق المعادلة نجد أن الحاسوبَ الفائق يمتلك 100 مليون بليون (1017) جول (joules) من الطاقة للقيام بالحوسبة. وبوحدة أكثرَ استعمالًا، يمتلك الحاسوب حوالي 20 مليون مليون (2 * 1013) كيلوحريرة من الطاقة.
هناك وحدة أخرى لحساب الطاقة وهي كمية الطاقة المحررة في انفجار نووي، إذ يمتلك الحاسوبُ الفائق 20 مليون طنًا من TNT لتنفيذ عمليات الحوسبة؛ أي ما يعادلُ كمة الطاقة المحررة من قبل قنبلة هيدروجينية ضخمة.
في الحقيقة، عندما يكون الحاسوبُ الفائق في أعلى مستويات قدراته، مستهلكًا كل ما توفر لديه من طاقة، يكون داخله ما يشبه الانفجارَ النووري. وتكونُ كلُّ الجسيمات الأولية التي تخزن وتعالج المعلومات بداخله في اهتزازات تحت درجة حرارة بحدود البليون مئوية. يَظهرُ الحاسوبُ الفائق كجزء صغير من الانفجار العظيم. وعليه يكون عدد العمليات- في الثانية- التي يمكن لحاسوبنا الصغير والقوي القيام بها ضخمًا جدًا، مليون بليون بليون بليون بليون بليون عملية في الثانية (1051).[4]
القدرة الحوسبية للكون:
لنفترضَ أن كل المادة والطاقة المتواجدتين في الكون قد سُخّرتا للقيام بعمليات الحوسبة، كم ستكون قدرة الحاسوب الناتج؟ يمكننا حسابُ مدى قوة هذا الحاسوب الكوني المؤلَّف من كل ما يشكِّلُ هذا الكون بالطريقة نفسها التي حسبنا فيها قدرة الحاسوب الفائق في الأعلى.
كما ذُكر سابقًا، كمية الطاقة تحدد السرعة. لقد تم حساب كمية الطاقة الموجودة في الكون والتي يُحفظ الجزءُ الكبير منها داخل الذرات بدرجة عالية من الدقة. إذا قمنا بحساب جميع عدد الذرات الموجودة في النجوم والمجرات، وأضفنا إليها المادةَ الموجودة في السحاب ما بين النجمي، نجدُ أن معدلَ كثافة الكون يساوي ما مقداره ذرة هيدروجين واحدة في كل متر مكعب من الفضاء.
لكن هنالك أشكالٌ أخرى للطاقة في الكون، فمثلًا، يحتوي الضوءُ طاقةً أيضًا (لكن بمقدار أقل من الموجودة في الذرات). يشيرُ معدلُ دوران المجرات المتباعدة إلى وجود مصادرَ بعيدة غير مرئية للطاقة تأخذ أشكالًا غير معروفة، فالوتيرة اللانظامية التي يتمدد بها الكون تشير إلى وجودِ شكل آخر من أشكال الطاقة سمي: العنصر الخامس (quintessence). غير أن كميةَ الطاقة الموجودة في هذه الأشكال الغريبة لا تتعدى عشرةَ أضعاف ما تحتويه المادة العادية من طاقة، وهذا لا يؤثرُ بشكل كبير في مدى القدرة الحاسوبية للكون.
قبل البدء بحساب القدرة الحوسبية للكون فلنكن واضحين حول ماهية الشيء الذي نقوم بحسابه، تدلُّ الأدلةُ المجمعة من الملاحظات البصرية على أن الكونَ غيرُ محدود وفي توسّعٍ مستمر في كل الاتجاهات. بطبيعة الحال، في فضاء لامحدود تكون الطاقة لامحدودة أيضًا؛ وبالتالي يكون عدد العمليات المنجزة وعدد البتات في الكون لا محدودٌ أيضًا.
لكن الملاحظات تخبرنا أيضًا أن للكون عمرًا ذا نهاية: أقل بقليل من 14 بليون عام. لا تستطيعُ المعلومة السفر أسرع من الضوء، لأن للكون عمرًا منتهيًا ولأن سرعة الضوء منتهية، فإن الجزءَ من الكون الذي يمكننا الحصول على معلومات عنه منتهٍ أيضًا. هذا الجزء من الكون الذي يمكننا الحصول على معلومات عنه يوجد ضمن ما يسمى: الأفق الكوني (Cosmological horizon)، أما ما وراء الأفق الكوني فلا يمكننا سوى تخمين ما يحصل هناك. إن العدد الذي سنحصل عليه يمثل كميةَ الحوسبة الممكنة ضمن الأفقِ الكوني. عمليات معالجة المعلومات الحاصلة خارج نطاق الأفق الكوني لا تؤثرُ على نتيجة أي عملية حوسبية واقعة ضمن الجزء الملاحظ من الكون منذ الإنفجار العظيم.
إذن عندما نقول َحساب القدرة الحوسبية للكون» فالمقصود حقًّا هو حساب «القدرة الحوسبية للجزء الواقع ضمن الأفق من الكون».
يتوسعُ الأفقُ الكونيُّ باستمرار مع الوقت بمعدل ثلاثة أضعاف سرعة الضوء، وباتساع الأفق الكوني، تظهر المزيدُ من الأشياء لنا، ومعها تزيد كميةُ الطاقة المتوفرة للقيام بالحوسبة، كمية الحوسبة التي يمكن إجراؤها في الجزء الواقع ضمن الأفق من الكون تزيد مع الوقت منذ الانفجار العظيم.
يبعد عنا الأفق الكوني مسافةَ 42 بليون سنة ضوئية. يحتوي كل متر مكعب من الجزء الواقع ضمن الأفق في المتوسط على ما يعادل كتلةَ ذرة هيدروجين لكل متر مكعب. كل ذرة هيدروجين تحرر طاقة: E=mc2
بجمع كل قيم الطاقات الموجودة في الكون، نجد أنه يحوي 100 مليون بليون بليون بليون بليون بليون بليون بليون جول من الطاقة (1071)، معظمُ هذه الطاقة حرة أي متوفرة للقيام بالحوسبة.
لحساب السرعة القصوى التي يعالجُ فيها الكونُ المعلومات، نطبّقُ نظريةَ مارغولوس-ليفيتين: نأخذ كميةَ الطاقة الموجودة في الأفق الكوني، ضرب 4 ونقسمها على ثابت بلانك. والنتيجةُ هي أنه في كل ثانية، يتمكن حاسوبٌ يحتوي كل الطاقة الموجودة في الكون من القيام بـ 100،000 جوجول 2 عملية (10105). خلال الـ14 بليون عام منذُ نشأة الكون، هذا الحاسوب الكوني الافتراضي استطاع القيامَ بـحوالي 10،000 بليون بليون جوجول عملية (10122).[4]
ماذا بعد؟
الآن نحن نعلم أن الكونَ يقومُ بالحوسبة، ونعلم القدرة الحوسبية للكون. «ماذا الآن؟»، ما الجديد الذي يمكن أن تقدمه فكرة الكون كـ«حاسوب كمي عملاق»؟ لدينا نظريات ممتازة في نظرية ميكانيكا الكم للجسيمات الأولية. وماذا لو أن هذه الجسيمات الأولية تعالج المعلومات وتقوم بالحوسبة؟ هل نحتاج حقًّا للتفكير في وضع إطار نظري جديد لطريقة عمل الكون؟
جميعُ هذه التساؤلات معقولة، الصورة المتَّـفقُ عليها للكون من منظورٍ فيزيائي تعتمدُ على نموذج يرى الكون كـآلة. الفيزياءُ المعاصرة تقومُ على النموذج الآلي، أين يحلل المحيط اعتمادًا على الآليات الباطنية؛ وفي الواقع، هذا النموذجُ أساسَ كل العلوم الحديثة اليوم.
نموذجُ الكون الحوسبي يقدّمُ نظرةً جديدةً عن طريقة عمل الكون. لعل من أهمها هو تفسيرُ التعقيد الموجود في الكون بشكل عام والحياة على الأرض بشكل خاص. النموذج التقليدي الآلي لا يقدِّمُ أجوبةً مبسّطةً عن الأسئلة المعقدة في كوكبنا وكوننا. في المقابل تعطي معالجة المعلومات الملازمة لنموذج الكون الحوسبي فهمًا أعمقَ للظواهر المعقدة.
نظرة أخرى يقدمها الكون الحوسبي وهي فهمُ كيفية نشأة الكون، تُعدُّ إشكالية الثقالة الكمومية (quantum gravity) من أهم وأصعب التساؤلات في الفيزياء. في بداية القرن العشرين، اقترح العالم آينشتاين نظرية النسبية العامة (general relativity)، التي تُعدُّ من أبرز وأجمل النظريات حتى الآن، والتي تفسر العديدَ من الظواهر المُلاحظَة في هذا الكون على المقياس الكبير. تهتمُّ ميكانيكا الكم بدراسة جميع الظواهر الملاحظة في الكون على المقياس الذري، لكن فهمَ كيفية نشأة الكون يتطلبُ نظريًة تجمع بين النسبية العامة وميكانيكا الكم، نظريتان مهمتان جدًا وكلاهما صحيح، لكنهما غير متوافقتين.[4]
فهرس المصطلحات:
منطق ذو الرتبة الأولى: أحد أنواع المنطق الرياضي الكلاسيكي، يُستعمل في عدة مجالات من ضمنها الذكاء الصنعي، يستعمل كلغة لتمثيل المعارف.[6]
جوجول: googol، قيمة عددية تساوي عشرة قوة مئة (10100)، يقال أن صاحبَ التسمية ابن أخ عالم الرياضيات الأمريكي إ. كاسنر (E. Kasner). [المصدر: قاموس أوكسفورد للغة الإنجليزية]
المصادر:
الورقة البحثية:
هنا
[1] Decoding Reality: The Universe as Quantum Information ~Vlatko Vedral:
هنا
[2] Computation in Physical Systems:
هنا
[3] Ubiquity Symposium: What is Computation?:
هنا
[4] Programming the Universe: A Quantum Computer Scientist Takes on the Cosmos ~Seth Lloyd:
هنا
[5] Ultimate Physical Limits to Computation:
هنا
[6] First-Order Logic (First-Order Predicate Calculus):
هنا