كيف أسس الهولنديون نيويورك
التاريخ وعلم الآثار >>>> تحقيقات ووقائع تاريخية
كتب أحد أوائل المستوطنين الهولنديين الذين نزلوا أرض منهاتن "لقد كنا سعداء جداً عقب وصولنا إلى هذا البلد" و أضاف " لقد وجدنا أنهاراً جميلة، و ينابيع تتدفق عبر الوديان، والفواكه اللذيذة في الغابات، و الأسماك النهرية المتنوعة، و كذلك أراضٍ زراعية خصبة، إضافةً إلى أنواع المواشي المتعددة للطعام، لم نكن نتمنى العودة إلى هولندا، فكل ما تمنينا وجوده في جنة هولندا وجدناه هنا". لقد صورت رسالته تلك، التي كتبت في عشرينيات القرن السابع عشر، جمال و سخاء ذلك المكان الذي أسموه أمستردام الجديدة.
في العقود الأولى من القرن السابع عشر، انتشرت المستعمرات الأوروبية على طول الساحل الشرقي لأميركا الشمالية، فقد أسس الانكليزمدينة جايمس (James town) في عام 1607م، و بحلول عام 1638 م تمكن السويديون أيضاً من تأسيس السويد الجديدة هناك. شكل الهولنديون في ذلك الوقت مركز قوة أوروبا التجارية، من خلال تشغيل الأساطيل التجارية الضخمة المدعومة بقواتٍ بحريةٍ قوية، و قد كان أحد مشاريعهم التجارية الرئيسية هو شركة هولندا- شرق الهند التجارية و التي تأسست عام 1602 بهدف احتكار تجارة التوابل الرابحة مع الهنود الشرقيين، إلا أن الشركة لم تحصر أعمالها في الشرق طالما أنه كان بالإمكان جني المال من مكانٍ آخر، فقد بدا العالم الجديد مغامرةً واعدة.
في العام 1609 وظف الهولنديون البحار الانكليزي هنري هدسون الذي أخفق في اكتشاف ممرٍ يصل إلى آسيا من الطرف الشمالي الشرقي، إلا أنه اكتشف عوضاً عنه امتداداً للساحل الأميركي الشرقي، إضافةً إلى نهر ديلاوير الذي أطلق عليه لاحقاً اسم نهر هدسون نسبةً إلى ذلك البحار الانكليزي.
و في العام 1613 أبحرت حملة هولندية استكشافية في نهر هدسون أسفرت في العام التالي عن اكتشاف حصن ناساو، و هي ما تعرف اليوم بمدينة ألباني عاصمة ولاية نيويورك.
لقد تم تكريس هذه المستعمرة من أجل التبادل التجاري مع السكان المحليين، حيث تم تبادل البضائع الأوروبية التي كانت في معظمها تتضمن الأسلحة، مقابل البضائع المحلية مثل التبغ، المحاصيل الزراعية، و فراء المنك و السمور و القندس.
في عام 1621 تم تأسيس شركة هولندا - غرب الهند التي تمتعت بامتيازاتٍ حصرية لاستثمار أرض هولندا الجديدة، و هو الاسم المشترك الذي أطلق على كافة ممتلكات هولندا في أميركا الشمالية، الأمر الذي حفز إنشاء المستعمرات، كما شجع على تأسيس العديد من المدن والأماكن الجديدة مثل هارتفورد، كونيكتيكت، كنغستون، نيويورك، مدينة غلوكستر، نيوجرسي، نيوكاسل، ديلاوير، كل تلك المدن تدين بأصلها إلى الشركة الهولندية. غير أن المستعمرة الهولندية التي أنشئت على طول الضفة الجنوبية من نهر هدسون هي التي تطورت لتصبح الأكثر نجاحاً.
حوالي العام 1624م استوطنت مجموعةُ من الهولنديين على جزيرةٍ صغيرةٍ، أطلق عليها السكان المحليين باغانك (وتعني جزيرة البندق) و ذلك لكثرة توافر أشجار الجوز و الكستناء، و تعرف اليوم باسم جزيرة الحاكم، و التي بالكاد تبعد عن منهاتن حوالي نصف ميل؛ و تمتاز مدينة منهاتن بمساحة أطول من جزيرة البندق تحيط بنهر هدسون و تبلغ 13 ميلاً، بالإضافة إلى أنها أكبر و غلالها أكثر وفرة، كما أن حمايتها أسهل من جزيرة البندق، و بسبب تلك المزايا التي تتمتع بها منهاتن، فقد قام الحاكم الجديد بيتر مينوي بنقل المستعمرة الهولندية إلى منهاتن و ذلك في العام 1625م.
لم يكن الأوروبيون وحدهم من رأوا تلك المزايا، فالجزيرة كانت آهلةً بالسكان. في الحقيقة لقد تم تقسيم كامل تلك الكتلة المؤلفة من لونغ آيلاند، منهاتن، إضافةً إلى جزيرة ستاتن بين عدد من تحالفات السكان الأصليين من مختلف أنحاء أميركا.
على أرض لونغ آيلاند كان ثمة قبائل المونتاوك و المانهاستو و هما جزءٌ من حلف ميتواك، بالإضافة إلى قبائل الريكغاواوانك و بضع مجموعاتٍ من الوابينغر الذين استقروا أيضاً في مانهاتن. كما قد تشاركت جماعتان من مدينة ديلاوير، هما الكنارسي و الروكاواي، ما يعرف اليوم باسم كوينز. و أما قبائل ويكواسجيك و نيبنيكسين فقد استقروا شمال منهاتن فيما يعرف اليوم باسم برونكس، فيما استوطنت قبائل راريتان جزيرة ستاتن.
الحلي مقابل الأرض
لدى انتقال الهولنديين لاستيطان منهاتن، وجدوا أنفسهم أمام مواجهة مزيج سياسي من أعراق السكان المحليين القاطنين أرض منهاتن، و من هنا نشأت أسطورة أمستردام الجديدة (New Amsterdam)، و مازالت العديد من الروايات التي تدور حول هذه الأسطورة مثار جدلٍ أكاديميٍ و شعبيٍ أيضاً.
تقول الرواية أن الحاكم بيتر مينوي (أو ربما أوروبيٌ آخر) قد اشترى الطرف الجنوبي من منهاتن من الهنود، و أن الثمن كان 60 غيلدر (العملة الهولندية آنذاك) أو ما يعادل 24دولاراً حينها، أي ما يعادل بضعة آلافٍ من الدولارات في وقتنا الحالي. و بالطبع فقد تمت العملية بمبادلة البضائع و ليس بأوراق النقد، و بدا ذلك صفقةً رابحةً جداً للأوروبيين.
إن الدليل الوحيد على عملية البيع هذه هو وثيقةُ محفوظةُ في الأرشيف الوطني لهولندا، و قد كتبت من قبل بيتر شاغن مخاطباً مدير شركة هولندا- غرب الهند، و قد وصف تلك العملية بـ "عملية الشراء من الهمج"، ذلك أن البيعة كانت لمساحة 9000 هكتار من الأرض مقابل 60 غيلدراً فقط. لكن الوثيقة لم تحدد نوع البضائع التي أعطيت مقابل الأرض، غير أنها من الأرجح أن تكون حلياً، كما لم تذكر الوثيقة أيضاً من هم البائعون أو الشارون.
يعتقد المؤرخون أن صفقةً كهذه ليست أمراً بعيد الاحتمال، لأنه من المعلوم أنه بعد أربعة سنواتٍ فقط، قام مينوي بشراء جزيرة ستاتن و ذلك بمبادلتها مع ( الفؤوس، الأباريق، الخرز الزجاجي، المعاول، الأقمشة، مخارز الجلد، القيثارات اليهودية).
و لا تزال بعضٌ من جماعات السكان الأصليين توبخ أحفاد أولئك الهنود على قيامهم بهذه المبادلة الساذجة و الرخيصة، و تراها مصدراً لعار القبيلة.
و مع ذلك، فقد كانت تلك الأدوات ذات قيمة، فبالرغم من أنها بالنسبة للهولنديين لم تكن تساوي أكثر من بضعة دزينات من الغيلدر، إلا أنها كانت بالنسبة للهنود مواداً غريبةً جداً، سواءً في الاستعمال اليومي، أو حتى في المبادلات التجارية مع القبائل الأخرى. و علاوةً على كل ذلك، فمن وجهة نظر الهنود المحليين لم تكن تلك المبادلة تعني انتقالاً نهائياً لملكية الأرض، و إنما هي نوعٌ من حق الانتفاع، أو تنازلٌ مؤقتٌ عن تلك البقعة من أرضهم، لأنه بالنسبة لشعوب تلك المنطقة من الهنود المحليين، فقد كان من غير الممكن أن تكون الأرض أو الماء ملكاً خاصاً لأي أحد، كما هو الحال من وجهة نظرأوروبا. لم يدرك الهولنديون وجهة نظر الهنود تلك في البداية، إلا أنهم عندما علموا بها لاحقاً، قرروا تجاهلها في سبيل مصالحهم الخاصة.
النيويوركيون الأوائل
و هكذا تم إنشاء المستعمرة الجديدة الدائمة التي أطلق عليها أمستردام الجديدة، و التي مدت جذورها في الجزء الجنوبي من منهاتن لتصبح عاصمة مقاطعات شركة هولندا- غرب الهند، و سرعان ما بدأت تربية المواشي، وزراعة حدائق الخضروات، و بناء كنيسة، و كذلك إنشاء طاحونتين هوائيتين، بالإضافة إلى تشييد ما لا يقل عن 30 منزلاً خشبياً على طول الساحل، و قد قدر عدد المستوطنين الأساسيين بحوالي 300 مستوطنٍ جلهم من شباب العائلات الفقيرة تم توظيفهم من قبل الشركة في أمستردام. ومع بداية تأسيس المستعمرة تم تكريس اهتمامٍ كبيرٍ لضمان إجراءات الأمان، فقد بنى مينوي حصن أمستردام في الطرف الجنوبي الشرقي من الجزيرة، ثم قام الحاكم التالي لمينوي بإنشاء سورٍ دفاعيٍ (Waal) على الطرف الشمالي الشرقي من الجزيرة، و منه اشتق لاحقاً اسم الشارع الشهير وال ستريت Wall street .
نشبت العديد من المواجهات مع الهنود و بشكلٍ مستمر، لم تكن في معظمها سلمية، فقد اعتبرت الشركة نفسها مالكةً للأرض، فيما رأت بأن السكان الأصليين "همجٌ" و أن وجودهم يسبب مشكلةً كوجود " الذئاب و الأفاعي". و تبرزالصراعات حين تقوم مجموعةٌ من كلاب الهنود بمهاجمة قطعان الماشية الهولندية، أو عندما تدوس هذه القطعان المحاصيل الزراعية لأراضي الهنود، لتتبع ذلك كله أحداث عنفٍ، و ذلك حين يقوم أحد الهمج بإزعاج أحد الهولنديين الذين سرعان ما كانوا يبادرون بالانتقام بقتل الهنود الأبرياء.
لقد استمرت حروب المستعمرين لقبيلة الوابينغر من عام 1643م إلى عام 1645م، و حربهم مع قبائل السسكويهانا حتى عام 1655م، وكذلك حربهم مع قبائل الإيسوبس من ديلاوير لمدة عامين لاحقين.
لقد كان لوصول الهولنديين إلى منهاتن تأثيراً كبيراً على حياة السكان المحليين، غير أن الأمر الذي كان أكثر تدميراً لحياة السكان، لم يكن الصراعات الدموية مع الهولنديين، و إنما الأمراض التي جلبها الأوروبيون دون أن يدروا وخصوصاً مرض الجدري. فقد انخفضت أعداد قبائل ديلاوير من حوالي 20000 في عام 1600م إلى أقل من 4000 في عام 1700م، فيما انهارت أعداد قبائل الوابينغر من حوالي 8000 في عام 1600م إلى مجرد 90 ناجٍ فقط في عام 1698م.
وبالرغم من كل ذلك، لم يكن العدو الأكثر تهديداً لأمستردام الجديدة هو السكان الأصليين، و إنما الإنكليز، فخلال سنوات القرن السابع عشر شنت الدولتان المسيطرتان على الملاحة البحرية سلسلةً من الحروب بهدف تأمين الهيمنة البحرية و كذلك طرق التجارة. لم تتوقف تلك الحروب الأنكلو-هولندية عند هذا الحد، بل امتدت بعيداً لتصل إلى حدود الهند في الشرق و أميركا في الغرب. و في العام 1664م قام الحاكم الهولندي لأمستردام الجديدة بيتر ستويفيسانت بتسليم المدينة للأسطول البحري الإنكليزي الذي أرسل من قبل شقيق الملك تشارلز الثاني، و هودوق مدينة يورك، الذي اكتسبت منه المدينة اسمها الجديد نيويورك، و ذلك بعد أن رست السفن الإنكليزية قبالة أمستردام الجديدة، و كان الحاكم قد قرر القتال، و لكن المستوطنين توسلوا إليه أن يتفادى القتال من أجل تجنب البؤس و الحزن و الاعتداء على أعراض النساء و قتل الأطفال في مهدهم، إضافةً إلى الدمار الهائل و المحتم للحرب، و كذلك إزهاق أرواح أكثر من خمسة عشر ألف شخصٍ، الأمر الذي دفع بالحاكم للرضوخ لهم و قام بتسليم المدينة.
و نستطيع حتى اليوم تلمس آثار الأصل الهولندي للأسماء في مدينة نيويورك، حيث أطلق على مدينة بروكلين هذا الاسم في القرن السابع عشر نسبةً إلى مدينة قرب أوتريخت في هولندا، أما هارلم التي تقع في شمال منهاتن فقد استقت اسمها من مدينة هارلم في وسط هولندا.
المصدر:
.National geographic history، Dec 2015/jan 2016