الفئران تستشعر المجالات المغناطيسية عن طريق عمليات كموميّة.
الفيزياء والفلك >>>> فيزياء
يتحكم ميكانيك الكمّ بالعالم الغريب والمخالف للحدس الذي تسود فيه الذرات والجسيمات الدقيقة. لكن يبدو أنه مهم أيضًا في مساعدة الحيوانات على تحديد مواقعها. إذ يقترح بحثٌ جديدٌ أن فأر الغابة المنتشر في أوروبا يملك بوصلةً مدمجةً تعتمد على العمليات الكمومية، وهذا الكشف هو الأول من نوعه بين الثدييات البرية.
وفقًا لدراسةٍ نُشرت في دورية Scientific Reports في نيسان/أبريل الماضي (من عام 2015) فإن فأر الغابة الموضوع داخل حاوية يُفضّلُ بناء جحره في الأطراف الأقرب للشمال أو الجنوب المغناطيسيين من الحاوية، وعندما قام العلماء بتطبيق حقلٍ مغناطيسي صُنعي بالقرب من الفأر قام بنقل جحره إلى ناحيةٍ تتوافق مع اتجاه خط الشمال-الجنوب الجديد. ويعتقد العلماء أن هذا الحس بالاتجاهات ناجمٌ عن إلكتروناتٍ جوَّالة داخل عيني الفأر.
قدَّم هذا البحث الدليلَ الأول على امتلاك الثدييات البرية لحاسةٍ مغناطيسية تعتمد على العمليات الكمومية. وكان بحثٌ سابقٌ قد كشف عن وجود حاسةٍ مماثلةٍ لدى فئران التجارب، لكن دون أن يشير إلى إمكانية وجودها عند الحيوانات البرية.
يقول ثورستِن ريتز Thorsten Ritz المختص بالفيزياء الحيوية من جامعة كاليفورنيا في إيرفين Irvine معلقًا على هذه الدراسة – التي لم يُشارك في إعدادها – بأن معارفنا فيما يخص الحاسة المغناطيسية لدى الثدييات تكاد أن تكون معدومة، لذا فإن هذه المعلومة جديدة تمامًا.
تستطيع العديد من الكائنات الحية مثل البكتيريا والنحل وحتى الطيور استشعار الحقل (المجال) المغناطيسي الواهن للأرض، وهو ما يساعدها على التجول في بيئتها. لكن لم يجد العلماء صفةً مماثلةً لدى الثدييات سوى في الخلدان والخفافيش (الوطاويط) وما شابهها من الكائنات التي تحيا في الظلام وتملَّكت القدرة على التجول أثناءه.
يمكنك قراءة المزيد عن استعمال الطيور لميكانيك الكمّ من هنا
ويرى عالم الحيوان باسكال مالكيمبر Pascal Malkemper من جامعة دويسبرج-إسِّن Duisburg-Essen الألمانية والمؤلف الرئيسي للدراسة أنه من المنطقي أن تستخدم تلك الحيوانات بوصلةً مغناطيسيةً للتجول. لكن ظلَّ السؤال حول امتلاك الثدييات التي تحيا في الضوء القدرة نفسها أم لا بلا إجابة، وهو ما دفع مالكيمبر لدراسة فأر الغابة.
أقام مالكيمبر في صيف وخريف عام 2013 في إسطبلِ خيولٍ في الغابة البوهيمية الواقعة في جمهورية التشيك، مبتعدًا عن كلِّ مظاهر التقانة الحديثة التي يمكنها أن تؤثِّر على أدوات القياس الحساسة. وقبض على 45 فأرًا، فوضع كلًا واحدٍ منهم طوال الليل في حاويةٍ أسطوانية مليئةٍ بالقش ونشارة الخشب التي استخدمتها الفئران لبناء ما يُشبه السرير داخل الحاوية مقابل جدران الحاوية. ومن خلال مقارنة موقع مأوى كلِّ فأرٍ مع اتجاهات البوصلة وجد أن الفئران استقرت مقابل الجدران المحاذية للشمال أو الجنوب المغناطيسيين. وعند استخدامه وشيعةً كهرومغناطيسية لتطبيق حقلٍ اتجاه الشمال-الجنوب فيه مغايرٌ وجد أن الفئران غيرت مواضع مآويها.
لكن كيف تعمل بوصلة الفئران تلك؟
في بعض الكائنات مثل البكتيريا وسمك السلمون والخلدان، من المعتقد أن البوصلة تعمل بطريقةٍ مشابهةٍ للطريقة التي تعمل بها البوصلة العادية التي يحملها فتية وفتيات الكشافة، فتحديد الاتجاه يكون من عن طريق بلورات الحديد المغناطيسي التي تنحرف مثل إبرة البوصلة الحقيقية. لكن عند مخلوقاتٍ أخرى مثل الطيور تُشير الأدلة إلى وجود بوصلةٍ مختلفةٍ كليةً وتعتمد على العمليات الكمومية. فوفقًا للنماذج النظرية وعمليات المحاكاة الحاسوبية يُحرِّض الضوء النافذ إلى شبكية عين الطائر مادةً بروتينية محدَّدةً، فيتحرَّر زوجٌ من الإلكترونات. ويتحسس هذين الإلكترونين المتحررين الحقول المغناطيسية، فهما يسهمان في تحفيز تفاعلٍ كيميائيٍ معين يُعدُّ بمثابة مفتاح تبديل.
يتأرجح زوج الإلكترونات كما لو كان كل منهما خذروف (بلبل/صيَّاح) top. وتؤثر التغيرات في اتجاه الحقل المغناطيسي على تأرجح الإلكترونين بشكل مختلف عن بعضهما البعض، ما ينعكس على موقعيهما بالنسبة لبعضهما. ويُحدِّد هذا الاختلاف في موقعيهما ما إذا كانا سيتَّحدان مجددًا بسرعة أم ببطء، الأمر الذي سيطلق تفاعلًا من اثنين وسينجم عنه عدد من النواتج الكيميائية. وبحساب نسبة هذه النواتج المختلفة يمكن للكائن استخدام هذه البروتينات وكأنها بوصلةٌ مغناطيسية صغيرة.
وتعاني البوصلة الغريبة من بعض القصور، فلو وُضع الطائر في مجالٍ مغناطيسي ينعكس القطب الشمالي والجنوبي فيه ملايين المرات في الثانية الواحدة لفقدت هذه البوصلة دورها ولتشوَّش الطائر. ويُشبه الأمر التأثير على لعبة الخذروف الدوَّار بالنقر على الطاولة أسفله. وهذا ما يؤثر بشكلٍ جلي على الاتجاه الذي تُشير إليه البوصلة، هذا إن ظلت تعمل في هذه الظروف.
ويبدو أن الحيوانات التي تملك بوصلةً حديديةً لا تعاني هذه المشكلة، فهناك اعتقاد بأن البلورات الحديدية مثبَّتة على الأنسجة المحيطة بها لتكشف أي انفصال أو تغيير بسهولة. ويجعل هذا الفارقُ الحقولَ المغنطيسيةَ المهتزةَ أداةً رائعةً في معرفة نوع البوصلة التي تستخدمها الفئران.
هذا ما دفع العالم مالكيمبر إلى صيد المزيد من الفئران وإعادة التجربة، مع إضافة حقلٍ مغناطيسي منخفض الشدة يتبدل اتجاه قطبيه بمعدلٍ قريبٍ من تردد الأمواج الراديوية مُعدَّلة المطال AM، وهي المستخدمة في الإذاعات أو الاتصالات. كانت النتيجة على درجةٍ من الأهمية: فعند تعريض الفئران إلى الحقل المغناطيسي المهتز (وهو أضعف بحوالي 300 مرة من الحقل المغناطيسي الأرضي) فضَّل 17 فأرًا من فئران الغابة بناء جحورها باتجاه بين الغرب والشمال الغربي، والشرق والجنوب الشرقي، كما لو أن الحقل المغناطيسي المهتز أبطل البوصلة لدى الفئران.
ويعتقد مالكيمبر أن التذبذبات غيرت الكيفية التي "ترى" بها الفئرانٌ الحقلَ المغناطيسي. ويقول: «لو أن الحاسة المغناطيسية تتمركز في العين فنحن نعتقد أن هذا يساعد الفأر على رؤية المجال المغناطيسي على هيئة نمطٍ في اتجاهات معينة. وعندما أُضيف الحقل المتذبذب ربما حدثت إزاحة للنمط البصري المعتاد مما جعله يتَّجه باتجاهاتٍ مغايرة».
يرى بعض العلماء النظريين أن هذا البحث يعد خطوةً أولى راسخة نحو فهم البوصلة الكمومية بشكل أفضل، وقد وُجدت أيضًا لدى البرمائيات. في حين أن البعض الآخر يرى أن البحث لم يأتِ بجديد، فقد عبَّر عالم الفيزياء الحيوية كلاوس شولتن Klaus Schulten الذي كان أول من افترض وجود مثل هذه البوصلة، عن عدم مفاجأته لأن هذه البوصلة موجودة لدى غير الثدييات.
لم يتيقَّن الباحثون بعد من كيفية استفادة الفئران من الإحساس بالحقول المغناطيسية. لكن العالم بالأحياء جون فيليبس John Philips وهو أحد المشتركين بالدراسة يرى أنها تُساعد الفئران على ربط حركتها اليومية بخريطةٍ واضحةٍ للعالم الذي تعرفه. ولا يبدو أن أي شيءٍ نعرفه عن منظومة الإدراك المكاني لدى القوارض يقدِّم المنظومة المرجعية الشاملة التي تحتاجها. وقد يكون السبب هو فهمنا القاصر للحاسة المغناطيسية.
يؤكِّد الاكتشاف أن البوصلة لدى الحيوانات لا تُستخدم في التجوال واسع المدى وحسب. فعلى خلاف الطيور المهاجرة والسلاحف البحرية التي تهاجر مسافات تصل لآلاف الأميال مستعينةً بحاستها المغناطيسية، فإن فئران الغابة تعيش غالبًا في مساحة تُحيط جحرها على نطاقٍ لا تتجاوز 500 قدم.
ويُضيف فيليبس بأن الفكرة القائلة إن الحاسة المغناطيسية تتفرد بها الحيوانات المسافرة لمسافاتٍ طويلة غير صحيحة، وتفتح هذه الدراسة الباب أمام دراساتٍ قادمة.
وتبقى مجموعة من الأسئلة مُعلَّقةً وبحاجةٍ للمزيد من البحث. منها على سبيل المثال أن الفئران تظل محافظةً على التوجه وفق منحى الشمال والجنوب المغناطيسيين لدى تعرّضها لحقلٍ يُغيِّر قطبيته 1.3 مليون مرة في الثانية لكن الحقل نفسه شوَّش الطيور في تجاربٍ سابقة! ولن يتمكن العلماء من الإجابة على مثل هذه الأسئلة إلا لدى فهمهم الكامل للإحساس بالحقل المغناطيسي لدى الفئران ولدى بقية الحيوانات التي تستشعر المجالات المغناطيسية.
المصدر: هنا